قضايا وآراء

يوم بكيت على حال مصر.. واقعة أغرب من الخيال!

1300x600
مثل هذه الواقعة لا نراها إلا على شاشات السينما، في أفلام "الكوميديا السوداء" التي تعتمد على المبالغة، فتُخرج الأحداث عن نطاق الواقعية، وتحلق بالمشاهد في عوالم اللا معقول!.. أما أن يعيشها المرء، ناهيك عن أن يكون هو صانعها أو بطلها، فهذه هي المفارقة، وهذا هو وجه الغرابة.. وليسمح لي القارئ العزيز في سرد الحوار الذي جرى خلال هذه الواقعة بالعامية المصرية التي يعرفها الأشقاء العرب جيدا؛ لأن سردها بالفصحى سيفقدها كثيرا من الدلالات التي لا تُجليها إلا العامية..

كان ذلك في صيف عام 1991، يوم توجهت إلى "وزارة القوى العاملة" بمدينة نصر، شرق القاهرة؛ لقضاء شأن خاص.. هالني ما رأيت فور دخولي بهو الوزارة الرحب، في الدور الأرضي!.. جندي "أمن مركزي" ينهال ضربا بالقايش (الحزام الميري) على كل من تطاله يده!.. والجميع يفرون من أمامه (في كل اتجاه) فرار الفئران من القط!

وجدتني أصيح (لا إراديا) بأعلى صوتي في جندي الأمن المركزي: انتباه يا عسكري!.. وهو تعبير "ميري" يعرفه كل من خدم في الجيش، ويعني: تثبيت الجندي في مكانه.. على الفور، ألقى الجندي حزامه الميري على الأرض، ووقف في الوضع "انتباه"!

خيّم على البهو صمت رهيب، واشرأبت الأعناق، وتعلقت بي الأنظار!.. ولست أبالغ حين أقول: إذا سقط مسمار على الأرض (في تلك اللحظة) فسيسمع صوته كل من في البهو على اتساعه، وكان عددهم يربو على مئتي شخص!.. مئتا شخص من حملة المؤهلات يفرون (بصورة مهينة) أمام جندي أمن مركزي أمي، لا يقرأ ولا يكتب!

وتقمصت الدور الذي اقتضاه الموقف

وجدتني (فجأة) في بؤرة هذا الموقف العجيب! ولم يعد ممكنا التراجع قيد أنملة، فقررت المُضي حتى نهاية الشوط، وفقا لما بدا لي من معطيات.. فالجميع في حالة ترقب وانتظار لما سأقوم به..

كنت أرتدي بذلة صيفية، وأضع نظارة شمسية، نسيت أن أرفعها عن عيني عند دخولي مبنى الوزارة، لكنها أظهرت بعضا من عبوس وجهي.. قدِّي كان ممشوقا، وبنيتي كانت متينة.. طولي 186 سم.. صوتي كان مجلجلا حين وجهت "أمري" إلى عسكري الأمن المركزي: انتباه يا عسكري.. فخُيّل إلى الحضور أني رتبة عسكرية كبيرة، أو ذو منصب رفيع في الدولة!.. هذا ما قرأته في وجوه الجميع.. ومن ثم تصرفت على هذا الأساس!

بلغة حازمة، سألت أقرب الموجودين إليّ: إيه اللي بيحصل ده؟.. فتعالت الأصوات بالإجابة وتداخلت، فلم أفهم شيئا! فكان عليّ إيقاف هذه الفوضى فورا (لقد تقمصت الدور وانتهى الأمر).. رفعت يدي، فسكت الجميع، وقلت: عايز أسمع شخص واحد بس.. فتقدم أحدهم إليّ، وبدأ في طرح المشكلة! وبينما أستمع إليه، سمعت صوتا نسائيا قادما من بعيد ينادي: يا بيه! يا بيه!.. فالتفت صوب صاحبة الصوت وأجبتها: نعم.. فواصلت السيدة وهي تتقدم نحوي: ربنا بعت لنا سيادتك نجدة يا بيه!.. هكذا.. دون أن تكلف نفسها عناء السؤال عن هويتي، أو سبب وجودي في هذا المكان!

سألتُ السيدة: مين حضرتِك؟.. فأجابت: أنا مدير عام شؤون.. بالوزارة (نسيت شؤون ماذا).. فسألتها: يعني أنتِ مديرة هذا المكان؟.. فأجابت: أيوه يا بيه.. واستطردَت بأنفاس لاهثة: كل يوم ع الحال دا يا بيه!.. مفيش نظام.. المراجعين بيتكوّموا ع الشبابيك، والموظفين مش عارفين يشوفوا شغلهم، وأنا طول الوقت أصرخ، لحد م صوتي انشرخ!

سألت السيدة المديرة: باختصار.. إيه المطلوب من الناس دي عشان تنجزوا معاملاتهم بسرعة؟.. فأجابت: أولا، يبعدوا عن الشبابيك، ويقفوا في طوابير، ويبطلوا دوشة.. وثانيا، لازم تكون أوراقهم مترتبة كالآتي.. وأخذت تشرح باختصار ووضوح ترتيب الأوراق، والمراجعون في إنصات تام، فلما أنهت كلامها، توجهت بحديثي إلى المراجعين: سمعتوا الست المديرة قالت إيه؟.. فتعالت الأصوات: أيوه سمعنا.. سمعنا.. فواصلت كلامي في حزم: يلا.. نفذوا الكلام.. ومش عايز فوضى!

في ثوان معدودات، انتظم المراجعون في طوابير، وانكفأ كل منهم في ترتيب أوراقه على النحو الذي شرحته المديرة.. وبينما الحال كذلك، توجهت إلى عسكري الأمن المركزي الذي كان لا يزال في الوضع "انتباه" في انتظار أي أمر مني!.. سألته بحدة مصطنعة ووجه عابس: إزاي (يا عسكري) تمد إيدك ع الناس وتضربهم بالقايش؟.. فانتابت العسكري رعشة، وأخذ يتمتم بكلام غير مفهوم.. فأشفقت عليه، وحذرته (في غضب مفتعل) من تكرار هذا الفعل، وأصدرت إليه الأمر العسكري: "استرح يا عسكري".. أي "يتحلل" من الوضع "انتباه" الذي لا يسمح له بالحركة، حتى لو لدغه ثعبان!

انسحاب وبكاء وتساؤلات

بعد هذا الذي جرى، بات مستحيلا أن أمضي في تخليص معاملتي!.. فلك أن تتخيل (عزيزي القارئ) رد فعل المراجعين والإدارة إذ تبين لهم أني مجرد شخص عادي، لا أملك أي سلطة تخولني القيام بهذا الذي قمت به!

وبينما أهم بالانصراف، لحقت بي السيدة المديرة، وأخذت تشكرني وتلح في استضافتي في مكتبها على فنجان شاي، غير أني تعللت بانشغالي الشديد، وخرجت من بهو الوزارة بمشية الواثق!.. وقبل أن تطأ قدماي الشارع العمومي، وجدتني أدخل في حالة من البكاء المصحوب بضيق في الصدر، وصداع في الرأس، وكلما استعدت ما حدث، لا أصدق أنه حدث!

أضع هذه الواقعة (التي أُشهِد الله على صحتها) بين يدي علماء النفس والاجتماع.. وأتوجه إليهم بحزمة من التساؤلات:

- هل سلوك المراجعين والسيدة المديرة سلوك "إنساني طبيعي" موجود في أي مجتمع؟ أم هو خلل في الشخصية المصرية، والشعوب التي يحكمها مستبدون عموما؟

- ما الذي يمنع الناس من سؤال شخص عن هويته إذا اعتقدوا أنه يمثل السلطة العليا؟ وإذا جاز للمراجعين (في حالتنا هذه) ألا يسألوا، فكيف لا تسأل مديرة المكان عن هوية ذلك الغريب عن مؤسستها الذي وقف يصدر الأوامر في وجودها، بل ورحبت بذلك؟!

- هل هذا السلوك وليد "نمط التنشئة" الذي يخضع له الفرد منذ نعومة أظفاره في مجتمعاتنا؟ أم هو نتيجة إرهاب السلطة؟

- هل هذا "الانقياد الأعمى" هو الذي يشجع الحاكم على الطغيان، أم هو دليل على طغيانه؟

ولك (عزيزي القارئ) أن تضيف ما يعن لك من تساؤلات.

twitter.com/AAAzizMisr