تَسحرُني فكرة الشاعر الذي يكتب أناشيد الثورة والعودة، في بيئته الشعبية، وليست الإعلامية أو السياسية، ومن خارج المنظومة الرسمية، فتنطلق أشعاره كالسهم اللاهب في أوساط اللاجئين.
يكتب القصيدة، ويطلقها.. فإذا به يسمعها نشيداً على شفاه التلاميذ أو طلاب الجامعات، أو الفرق الفنية.
ويسحرني أنني عشتُ جزءاً من طفولتي أردد أناشيد الشاعر يحيى برزق دون أن أعرفه. وأن صديقي الذي استشهد في حرب المخيمات، هو من كتب قصائده على جدران مخيم برج البراجنة.
يهتم بتربية الأجيال، وبالأناشيد المدرسية في ثانوية عبد الله السالم في الكويت، التي خرّجت عدداً من المناضلين الفلسطينيين في تلك الفترة. ثم لا يهتمّ بجمع ديوانه وأعماله الكاملة. لولا الجهد المتميز الذي قام به ابنه مخلص برزق وبيت فلسطين للشعر وثقافة العودة، لما ظهرت أعماله الكاملة بهذا الشكل والمضمون في ديوان "الكناري اللاجئ".
صحيح أنه شاعر لم يجمع ديوانه، إلا أنه أطرب الآذان، وعبّأ الشعب الفلسطيني، وهو من الشعراء القلائل الذين ساهموا في تأصيل القضية وتصويب مسارها.
قلما تجد فلسطينياً لا يحفظ الأبيات التي انتشرت في الأناشيد الفلسطينية في الثمانينيّات، والتي نشرها الشاعر يحيى برزق بعد مجزرة صبرا وشاتيلا في إحدى الصحف الكويتية بعنوان "مزامير داود الفلسطيني":
لأني أحملُ الإيمانَ والجرحَ الفلسطيني
لأنّ غمائمَ الأفيونِ لم تُخمِدْ براكيني
لأني لم يَكُن إلا جهاداً دامياً ديني
أُشرَّدُ في منافي الأرضِ أُضربُ في الزنازين
***
لأني ما خفضتُ الرأسَ في ريحِ الخياناتِ
لأني ما طبعتُ على عقودِ الذلِّ بصماتي
أسيرُ على جِراحاتي، وتَنهشُني عذاباتي
وَكُلُّ جريمتي أني فِلَسطيني.. فِلَسطيني
هذه الأبيات تجسّد ما كان يعانيه الشاعر الذي كان يعيش جنسيته الفلسطينية بحذافيرها وشروطها الثورية والاضطهادية. وقد حدثني ابنه الصديق مخلص يحيى برزق عن الصورة التي أبكت والده، "أحضر له أحد الطلاب الذين كان الوالد يدرِّسهم في ثانوية عبد الله السالم في الكويت صورة حائطٍ كُتبت هذه الأبيات عليه.. الصورة التقطت لأحد الجدران في مخيم من مخيمات لبنان.. ولأن الوالد كان شديد التأثر بما حدث ويحدث لأهلنا هناك لدرجة أنه أصيب بجلطة في القلب بسبب صور مجزرة صبرا وشاتيلا، ومن بعد ذلك تكرر الأمر معه بسبب أحداث المخيمات في الثمانينات، وعندما أحضر له التلميذ هذه الصورة بكى تأثراً وفرحاً لأن صوته وصل إلى هناك وشعره يتردد في جنبات تلك المخيمات".
وكم علت أصوات المنشدين بقصيدته التي نظمها بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، حين قال:
صرخة البرج وشاتيلا وصبرا
لم تزل ترسم تشريداً وقبراً
ومع تسرّب الصور الأولى للفظائع التي حلت بشعبه لم يتحمل قلبه تلك المشاهد الدامية فأصيب بنوبة قلبية حادة دخل على إثرها المستشفى ليكون أحد ضحايا تلك المجزرة الرهيبة. ولأن قلبه ما عاد يقوى بعدها على تحمّل أي صدمة أخرى، تكررت النوبات القلبية مع كل مذبحة أخرى حتى جاءته نوبة أدت لحدوث شلل نصفي له أواخر عام 1986 بقي يعاني منه عاماً كاملاً حتى أسلم روحه لبارئها يوم الخميس 14 كانون الثاني (يناير) 1988.. وكانت آخر قصائده "شراع الجليل" التي كان يمليها على زوجته، التي كانت تكتبها وتسأله عن الأبيات التي لم تسمعها جيداً وتنقّح معه القصائد.. وبعدما أتمّ أبيات القصيدة ودّع هذه الدنيا غريباً وحيداً بعيداً عن أرضه ووطنه..
ومن عجائب القدر أن آخر بيت شعر كتبه كان:
وتوارى الفتى ولكن ذكراه
ستبقى لنا الشعاع الهادي
ومما يؤسَفُ له، هو الظلم الذي تعرض له هذا الشاعر من تعتيم إعلامي، بسبب عدم صدور ديوان له، ولعل شهادة أحمد مطر التي سجلها تلخص انطباعه عن شعر برزق رحمه الله. فقد ذكر في معرض إجابته على أحد الأسئلة "إن هناك شاعرين لم يأخذا نصيبهما وللأسف لم يطلع الناس على شعرهما، وإنهما يملكان موهبة عالية وهما يحيى برزق ومحمد حسني حمودة".
حياته
ولد شاعرنا لأبوين غزاويين نيسان (أبريل) 1929 في مدينة بئر السبع، حيث كان يعمل أبوه مدرساً في إحدى مدارسها آنذاك.. وهناك ابتدأت فيها معه رحلته مع الشعر.. وذاعت وانتشرت أبياته الشعرية حتى لقب حينها بشاعر الصحراء..
وحين كان في الثانية عشرة من عمره شهد حفلاً عجباً أقامه المستعمرون الإنجليز بئر السبع، وأعدوا له فرقة موسيقية أخذت تصدح لتجتذب جموع الشباب العربي كي ينخرطوا في جيوش الحلفاء، ووقف الحاكم المفوه اللورد أكسفورد مقيم الحفل يشيد بالصداقة العربية البريطانية!! فوقف الطفل يحيى مرتجلاً عن جيوش البرتش (البريطانية):
جاءت جيوش البرتش
تشدو بلحن منعش
وخطيبها يدعو الشباب
إلى الهلاك المدهش
فهتفت يا جيش العدا
ميعادنا في المشمش!!
وعلى الرغم من سذاجة الأبيات هتف الناس: ميعادنا في المشمش!!
أما أول قصيدة نشرها في الصحف فكانت عام 1944 وكان عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة، وفيها تحدث عما يعانيه بسبب أوضاع فلسطين آنذاك:
أغنيني نغمة أوطاني
فيها قد هامت أفكار
القيد يحيط بمعصمها
ويهدّم فيها أشرار
انتقل شاعرنا إلى مدينة غزة ليدرس الإعدادية وفاز بكأس المسابقة الشعرية لكلية غزة وديوان "ابن الرومي" شاعر الهجاء.. وفي مهرجان وطني ألقى فيه قصيدة ثائرة أعجب فيها المرحوم أحمد حلمي باشا (رئيس حكومة عموم فلسطين)، فتكفل بتعليمه للمرحلة الثانوية في كلية الروضة بالقدس حيث اتسعت أمامه آفاق جديدة..
ومع وقوع النكبة عام 1948م عمل شاعرنا مدرِّساً في مدارس الاونروا في غزة بأجر رمزي عبارة عن كيس من البصل أو البطاطس أو كمية من الجبن أو السمن أو الدقيق أو غيره.. ثم انتقل عام 1953 مع بعثة تعليمية إلى الكويت، وهناك نقل معه ثورته الشعرية وأحيا قضيته من خلال الندوات والمهرجانات..
اجتهد في الكويت في تأليف المسرحيات الشعرية وتدريب طلابه عليها فكان يصل نهاره بليله ولا يعود من مدرسته في كثير من الأيام إلا في وقت متأخر من الليل.. كان يمضي الساعات الطوال بعد انتهاء الدوام المدرسي يدرِّب طلابه على المسرحيات الوطنية الجهادية (كثير منها على شكل أوبريت شعرية).
في بيروت، عاش الشاعر مع الفلسطينيين، وعانى معهم، وحدث أن اعتُقل في العام 1958، وزُجَّ به في سجن الرمل، وكتب هناك قصيدة للقدس، ضمّنها ما يعانيه فلسطينيو لبنان من ظلم وإجحاف.
القصيدة التي كتبها في سجن الرمل، حيث أُلقي القبض عليه بسبب إلقائه قصائد وطنية، بعنوان "يا قدس" يقول في مطلعها:
هَتَفْتُ بِاسْمِكِ والسَّجَّانُ يُمسِكُ بي
والحائِطُ المُعْتِمُ المَجْدُورُ لي أُفُقُ
ونختار من أوسطها هذه الأبيات:
أَقصى هَوايَ هُو الأَقصى وصخرتهُ
فالقلبُ بالركنِ والمحرابِ يلتصقُ
لكنهم سَخِرُوا منِّي ومن بَلدي
واستَاقَني جُنْدهُم والقيدُ يَصطَفقُ
فالحُبُّ أَضْحَى لديهِم تُهمةً عَظُمَتْ
بهَا يُعذَّبُ مَنْ هَامُوا ومَن عَشِقُوا
باسمِ الأُخوّةِ نُسْقى كُلَّ دَاهِيَةٍ
نُسقى إِذا اختلفُوا، نُسقى إِذا اتفقُوا
كأَنَّما عَشِقُونا في الثَّرى جُثَثاً
وكيفَ يُعْشَقُ مَيْت مَا بهِ رَمَقُ؟
بيروتُ بيروت مَا أبهاكِ حَاضِرَةً
لولا عَقَارِبُ لَيلٍ.. هَاجَهَا النَّزَقُ
رفض شاعرنا الحلول السلمية وهاجم المروجين لها، وعبّر عن ذلك في العديد من قصائده في مراحل مختلفة وأزمنة متباينة ففي قصيدة "ألف لا" يعتبر المناداة بالصلح مع العدو خيانة فيقول:
يَا دُعَاةَ الصُّلحِ إِنَّا أَلْفُ لاَ..
أَو يَعُودَ المَسْجِدُ الأَقْصَى لَنَا
كَيْفَ نَلقَى اللهَ إِنْ خُنَّا حِمىً
كَانَ بِالأَمْسِ مَمَراً للسَّمَا
من جميل ما قرأت لشاعرنا، قصيدة دينية بعنوان "شياه بلا رعاة":
يَا سَيِّداً بَهَرَ العُقُولَ بِفَضْلِهِ
وَسَبَى قُلُوبَ العَالَمينَ نَدَاهُ
إِنِّي إِذَا عَبَثَ الغُزَاةُ بِأُمَّتيِ
نَادَيْتُ: يا الله! يَا اللهُ!
يَا مَالِكَاً أَمْرِي وَكَاشِفَ غُمَّتِي
يَا مَنْ يُجِيرُ وَلا يُجِيرُ سِوَاهُ
لُطْفَاً بِنَا في النَّائِبَاتِ وَكُنْ لَنَا
إِنَّ المُغِيْرَ تَخَضَّبَتْ كَفَّاهُ
ويختم القصيدة بهذه الأبيات:
فَكَأَنَنَّا وَالحَادِثَاتُ تَسُومُنَا
هَوْلَ المَنُونِ وَلاَ رُعَاةَ شِيَاهُ
يَا رَبِّ رَحْمَتَكَ المُغِيثَة وَاسْتَجِبْ
لِمُعَذَّبٍ شَقَّ الفَضَاءَ دُعَاهُ
وَاجْمَعْ عَلَى الحَقِّ الرِّجَالَ فَطَالَمَا
أزْرَتْ بِنَا وَأَطَاحَتِ الأَشْبَاهُ
قصيدة حب:
كثيراً ما صرح الشاعر أن علاقة الحب الحقيقية هي التي بينه وبين فلسطين، وكتب الكثير من قصائد الحب لفلسطين، وقصائد الغربة والتشرّد عنها، ومن أجمل ما كتب في هذا المجال كانت قصيدة "حنين" التي نختار منها بعض الأبيات:
يَا قَلْبُ مَالَكَ فيِ الحَوَادِثِ كُلَّمَا
ذُكِرَ الحِمَى خِلْت الوُجُودَ جَهَنَّمَا
فَمَضَيْتَ تَخْفِقُ فيِ الأَضَالِعِ لاَهِثاً
مُتَهَدِّماً تَشْكُو مُصَابَكَ لِلسَّمَا
حَتى غَدَوْتُ وَذِكْرَيَاتِيَ مَأْتَم..
إِنْ أَقْبَلَتْ أَرْسَلْتُ دَمْعِيَ عَنْدَمَا
وَيَكَادُ يَقْتُلُنِي الحَنِينُ إِذَا شَدَتْ
قُمْرِيَّة فَوْقَ الغُصُونِ.. تَأَلُّمَا
سيف الدين الكيلاني.. حمل الهوية الفلسطينية في شعره
مسجد النصر ببيت حانون شيد قبل 8 قرون تخليدا لهزيمة الصليبيين
الشاعر رجا سُمرين.. مسكونٌ بِفلسطين قدّم ابنه عربونا لها