جئت
متأخرا ففاتني منبت الحديث، وبعد التحايا، وصل الصديقان ما قطعه حضوري، بعد توضيح موجز،
تكفل به الأول، ولنسمه (ن)، فقال: كنت قد بدأت أشرح لـ... (لنسمه ج) مبرراتي في تفضيل
عدم الاتفاق، فقد لامني على أني لم اتفق مسبقا مع الجهات التي أتعامل معها، وأني أترك
الأمور للتقديرات اللاحقة، ولا أكترث كثيرا إذا ما جاءت أقل أو أكثر من المتوقع، ففي
الواقع أنه قد طال كفي عن التوقع.
وواصل
شرحه لكلينا: لم تعد لكلمة "اتفاق" سمعة طيبة لدي، لا هي ولا جذرها اللغوي،
ولا مؤنثها أو جمعها، أفضلها فقط حين تأتي بصيغة الفعل الذي يشير إلى المصادفة وعدم
الترتيب: مثلا، كما اتفق، أي وقع عرضا وصدفة، دون ترتيب أو نظام.
فعلق
(ج)، موجها حديثه لي: صاحبك يريد أن يمشي في الدنيا سبهللا.
فقلت:
هو حر، وراشد ويتحمل عقبات مشيه، كيفما اتفق له.
وضحكنا،
ثلاثتنا.
وعاد
(ن) ليشرح: هذا الموقف نتاج تفكير عميق، وهو، أيضا، نتاج خبرة وتجربة، وحكمة أخذتها
من خالتي أم سعيد، هي في الواقع ليست خالتي، إنها خالة والدتي، ولأنها وأسرتها، منذ
طفولتي، كانت تقيم في بيت جدتي لأمي، فقد سمعت خالاتي وأخوالي ينادونها بخالتي، فجرى
النداء على لساني، كما وقع على سمعي، وتعودته، ثم أنها، في الواقع لم يكن من المفترض
أن تكنى بأم سعيد، ذاك أن ابنها البكر اسمه محمد، وأن سعيد هو التالي عليه، وقد جاء
بعده بنحو عامين، تمتعت فيهما بكنايتها الطبيعية، وكانت تنادى بأم محمد، قليلون للغاية
كانوا ينادونها باسم العذرية "هانم"، لكن عندما ولد سعيد، تحولت إليه كنيتها،
ذلك أن جدتي لأمي كانت تحوز هذه الكناية (أم محمد) ولم يكن من المستحب الالتباس، بينهما،
وفي الواقع، وهذه آخر في الواقع، أن جدتي لم يكن من المفترض أن تكنى بأم محمد، لأن
خالي الأكبر اسمه عبد الوهاب.
لفترة
طويلة، حين كبرت وعرفت هذه التفاصيل، كنت على يقين أن ظلما وقهرا قد وقع على هانم وعلى
محمد وعلى عمي أبو سعيد؛ فقد سلب منه هو الآخر كنية بكره.
وشاعرا
بأننا نستغرب كيف سيعود بنا إلى موضوعنا الرئيس، وما هي علاقته بهذه "الحواديت"
العائلية، قال: سأذهب إلى حكمة أم محمد، فهي الوحيدة في بيت جدتي الجديرة بهذه الكنية،
لكني سأذكر، أولا، أنني لامست ما يبدو وكأنه تفضيل لسعيد على محمد في الحب والثقة والتقدير،
من دون أن تتبدى منه دلائل على ذلك في سلوكه أو عواطفه تجاه أمه أو أبيه، وإذ فكرت
في هذا الأمر، قدرت أن سببه شعور نفسي غير مدرك حل بموجبه سعيد محل محمد، وكأن الجميع
نسى ترتيب الحضور إلى العالم.
أقمت
لما يزيد عن عام مع خالة أمي، وكان محمد وسعيد قد تزوجا، وأنجبا، وكذلك فعلت البنت
الوحيدة (عزة)، في حين بقي سكر (اسمه الحقيقي دسوقي) ينتظر شيئا ما، وقد كان يكبرني
بنحو عام، ثم حدث أن جاء المنتظر، عقد عمل في السعودية، فبقيت أنا وهي، وكانت كريمة
معي، لحد مفرط، وقد عرفت منها حكمة عدم التوقع، ذلك أن بكرها (محمد) كان يمر بها في
مساءات متقاربة، يسأل عن الأحوال، وينبأها بجديد أسرته، ثم ينهي حضوره بسؤال، مكرر:
عايزة فلوس يمّا، فتنظر إليه وتبتسم، وتقول: أيوه يا محمد، فيسألها: كم، فترد: بابتسامة،
وتقول: شوف انتى، فيخرج من جيب بنطاله أوراقا نقدية، ثم يعطيها منها، ويغادر، ويتكرر
الموقف أمامي مرات بنفس الكلمات والتعابير والمشاعر، وفي يوم أصر أن تقول له كم تريد،
فأجابته: لا، مش حاقاطع أبدا على رزقي، فضحك، وفعل كما كان يفعل كل مرة، وفور مغادرته
استوضحتها، فقالت: مرة كنت محتاجة خمسين جنيه ضروري، وقلت لو حضر محمد لقلت له هات
خمسين جنيه، ولما حضر، سلم، وأخرج وهو واقف لم يجلس، فلوسا ووضعها في حجري، ومشي، ولما
عدتها كانت مائة وخمسين جنيه.
كان
(ج) ينظر إلى هاتفه، ويقلب فيه، وحالما صمت (ن) قال: حكاية لطيفة، كنت أصغي جيدا، وأقرأ
في هاتفي، وأنظر إلى السماء، في عصرنا، هذا يجب على كل واحد منا أن يفعل، على الأقل،
خمسة أفعال في وقت واحد بنفس التركيز، تقود السيارة، وتتحدث بالهاتف، وتقزقز لب، وتنظر
إلى الحسناء التي تقود السيارة التي إلى جوارك، وتنفث دخان سيجارتك. سمعت الحكاية وجهزت
ردي: الدنيا من غير اتفاقات مستحيلة، حاليا، كما كانت مستحيلة منذ وجد الإنسان، ولن
أقول قبل أن يوجد، قلبت فوجدت اتفاقات تعد الآن سبة لا يقبل بها أحد لكنها وضعت أسسا
لما بعدها، سأقرأ لك عن أحدها، إنها "اتفاق أو تفاهم الثلاثة أخماس"، اسم
غريب، لكنه دال تاريخيا، فالإخوة الأمريكان توصلوا لحل وسط لكيفية حساب العبيد، ففي
عام 1787 عقد مؤتمر دستوري بين ممثلي الولايات الشمالية والولايات الجنوبية وكانوا
مختلفين حول كيفية احتساب العبيد عند تحديد إجمالي عدد سكان الولاية لأغراض التمثيل
التشريعي والضرائب، حيث سيتم استخدام هذا العدد السكاني لتحديد عدد المقاعد التي ستحصل
عليها الولاية في مجلس النواب الأمريكي للسنوات العشر المقبلة، ولحل الخلاف جاءت فكرة
وسط حققت لكل من الطرفين بعض مصالحه، حيث تم احتساب ثلاثة من بين كل خمسة عبيد كأشخاص
أحرار لهذا الغرض. منح هذا الولايات الجنوبية ثلثا زائدا من المقاعد في الكونغرس والأصوات
الانتخابية أكثر مما لو تم تجاهل العبيد، ولكن أقل مما إذا تم احتساب العبيد والأحرار
على قدم المساواة.
مهد
هذا لخطوات لاحقة، لكنها كلها لم تمنع الحرب الأهلية، وفي نهايتها كان هناك نتيجة:
منتصر ومهزوم، وكان اتفاق أفضى لظلم، ثم تدافع، وصراع، ثم اتفاق، وهكذا، هذه حال الوجود
الإنساني على الأرض، صراع قد يحل باتفاق مؤقت، يلبي بعض مصالح الطرفين، وحين يكف الاتفاق
عن فعله هذا، قد يتحول لحرب، وهكذا.
كان
(ن) يتهيأ للتعقيب، لكن (ج) كان أسبق، فأردف: كنت أصغي، وأقرأ وأنظر للسماء، فشاهدت
طائرة، وبحثت في هاتفي، هذا الساحر العجيب، أفادني، معك، هذه الطائرة تسير وفق اتفاقية
ملزمة للجميع، لكل مستخدمي الطيران المدني في العالم، يا صديقي، سأقرأ عليك: اتفاقية
شيكاغو الصادرة عن المنظمة الدولية للطيران المدني (ICAO): تُعد اتفاقية الطيران المدني
الدولي (المعروفة أيضاً باتفاقية شيكاغو) الصك الدولي الرئيسي للمنظمة الدولية للطيران
المدني (ICAO)،
والتي وقعت عليها 52 دولة في 7 ديسمبر عام 1944. وإبّان انتظار مصادقة 26 دولة عليها
أنشِئَت المنظمة الدولية المؤقتة للطيران المدني (PICAO) التي مارست مهامها من تاريخ
6 حزيران/ يونيو 1945 ولغاية 4 نيسان/ إبريل 1947. وبحلول الخامس من آذار/ مارس
1947 تم استلام هذه المصادقات، ووُلدت المنظمة الدولية للطيران المدني في الرابع من
نيسان/ إبريل 1947. وفي تشرين الأول/ أكتوبر من نفس العام أصبحت منظمة متخصصة تابعة
للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة (ECOSOC).
وفيما
يلي النص الذي استعرضت فيه الاتفاقية غايات إنشاء المنظمة الدولية للطيران المدني:
"إذ إنَّ التطور المستقبلي في مجال الطيران المدني الدولي بوسعه إيجاد الصداقة
والتفاهم بين أمم وشعوب العالم والحفاظ عليها، وإنَّ التعسف فيه قد يُشكل تهديداً للأمن
العالمي؛ وإذ إنه من المستحسن تفادي الخلاف وتشجيع التعاون بين الأمم والشعوب التي
يعتمد عليها السلام العالمي؛ لذلك، فقد اتفقت الحكومات الموقعة أدناه على بعض المبادئ
والترتيبات الرامية إلى إتاحة تطوير الطيران المدني الدولي بطريقة آمنة ومُنظمة، وإنشاء
خدمات النقل الجوي الدولي على أساس المساواة في الفرص، وتشغيله بشكل سليم واقتصادي".
يستحسن
تفادي الخلاف، هذا مقدم على تشجيع التعاون.
هذا
مع كل شخص وكل شيء نتصل به ونستخدمه ونتعامل معه.
جئت
متأخرا، وبقيت صامتا، أتابع سجال الصديقين، بانتباه، وتعجبت من مصادفة حضور مسألة العبيد
هذه، وكيف يعد عد إنسان على أنه ثلاثة أخماس فعلا توافقيا، فكر فيه نبهاء، يدرسون القانون
والحق والفلسفة، وتعجبت أكثر من مصادفة أني كنت، قبل ذهابي للقاء صديقي مباشرة، قد
شرعت في قراءة مقدمة ترجمة عادل مصطفى لكتاب "المختصر"، وهو، كما يصف مصطفى،
واحد من كلاسيكيات الأدب الروماني، لأحد الفلاسفة الرواقيين الأخلاقيين المتأخرين.
ذلك أن مؤلفه "إبكتيتوس" (وُلد في عام 50 تقريبا) وعلى الرغم من كونه عبدا
في مجتمع هرقلي بامتياز يصعب على العبيد أن يكونوا شيئا إلا عبيدا، فإنه استطاع أن
يتعلم الفلسفة..وأن يتحرر من نير العبودية...إلا أنه كان حرا بقلبه قبل أن يتحرر جسده.
أردت
أن أنقل للصديقين بعض ما كنت أفكر فيه عن "المختصر" لكنهما كانا قد طلبا
العشاء، وقد حضر، وجر الطعام الحديث إلى أشياء أخرى، عن الأسعار، والغلاء، وإعلام الدولة،
والجرائم... فبقيت مستمعا، أعلق بكلمة أو اثنتين حتى آذن الرحيل.