أعلنت منصة نتفلكس عن استحواذها على حقوق عرض 32 فيلماً سينمائياً فلسطينياً، وأتاحت مشاهدتها لمشتركي المنصة بدءاً من منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت.
اقرأ الجزء الثاني: نتفلكس والسينما الفلسطينية.. الرواية على عهدة الراوي (2من3)
اقرأ الجزء الثالث: نتفلكس والسينما الفلسطينية.. صورة رديئة للفلسطيني (3/3)
وأول ما يتبادر إلى الذهن سؤال عن بواعث هذه الخطوة من جهة إنتاجية فنية مطعون في مدى توافق توجهاتها السياسية، ومعاييرها الفنية، مع التوجهات والمعايير السياسية والثقافية للمجتمعات العربية، وكثيراً ما أثار محتواها الدرامي والسينمائي الاعتراضات والجدل في دول عربية، منها الأردن، على سبيل المثال، بعد عرضها أفلاماً تسلط الضوء على مشاكل اجتماعية محلية من وجهة نظر وصفت بأنها انتقائية واستفزازية ومجانبة للدقة في نقل صورة الواقع الاجتماعي الأردني.
وطلبت الهيئة الملكية الأردنية للأفلام من نتفلكس عدم عرض مسلسل "المسيح" أو "رجل المعجزات" الذي صوّرت مشاهد منه في مواقع أردنية، وبررت الهيئة طلبها بتعارض قصة الفيلم مع السردية الدينية الإسلامية.
اتهام نتفلكس بانتهاك المعايير الأخلاقية لم يكن مقتصراً على المجتمعات العربية، والأصوات المطالبة بحظرها و"مصادرة أصولها" والحؤول دون وصول أعمالها الدرامية إلى الشاشات المنزلية ظلت ترتفع في أكثر من دولة في قارات العالم الخمس، ليس في تركيا والهند والعراق والسعودية فحسب، ففي دولة تعدّ فيها حرية التعبير حقاً راسخاً من حقوق الأفراد والمؤسسات، ادّعت هيئة محلّفين في ولاية تكساس الأمريكية أمام المحكمة العام الماضي، متهمة المنصة باستخدام القُصّر للترويج للإباحية الجنسية وتشجيع التحرّش في الفيلم الفرنسي "كيوتز"، لمخرجته السنغالية ميمونة ديكوريه.
أما في الصين فتحظر الحكومة بث المنصة في جميع أنحاء البلاد لعدم توافق توجهاتها الليبيرالية مع سياسات الدولة.
تنطلق أغلب الاعتراضات على محتوى نتفلكس من اتهام المنصة بخرق المعايير الأخلاقية، أو إثارة الحساسيات الدينية والثقافية، ومثل هذه الاعتراضات ليست جديدة تجاه الأعمال السينمائية والمسلسلات الدرامية عامة، وليست مقتصرة على نتفلكس وحدها.
إلا أن الناحية السياسية أيضاً تثير شكوكاً حول انحيازات المنصة في قضايا ذات طابع سياسي، ومدى رضوخها لضغوط وتأثيرات سياسية ونفعية في صياغة رؤاها وخططها الانتاجية، وفي تبنّيها لأعمال معينة، ورفضها لأعمال أخرى، تعالج قصصاً وقضايا ذات خلفية سياسية جدلية.
من ذلك على سبيل المثال رفضها تبني الفيلم الوثائقي "المنشق" للمخرج براين فوغل، والذي يتناول قصة مقتل المعارض السعودي جمال خاشقجي.
أما حين تكون السينما الفلسطينية محور اهتمام من المنصة التي وصل عدد مشتركيها في آخر إحصائية إلى 214 مليون مشترك في 190 دولة، فإن الأسئلة عن أسباب هذا الاهتمام، وعن نوعية وطبيعة هذه الطاقة المنتقاة من الأفلام، تغدو أكبر.
جرى تصنيف نتفلكس منصة معادية للحقوق الفلسطينية ومنحازة للرواية الصهيونية في وقت مبكر من عمرها.
فبعد عامين من تحولها إلى قطاع الإنتاج، أطلقت في عام 2015 المسلسل التشويقي الإسرائيلي "فوضى"، الذي فرز نتفلكس من وجهة نظر عربية، في خانة الشركات الترفيهية الداعمة لإسرائيل.
وهو مسلسل يعزز البروباغندا الصهيونية في تقديم صورة أخلاقية وبطولية للجيش الإسرائيلي، ويكرّس في الوقت نفسه صورة المقاوم الفلسطيني بوصفه إرهابياً وانتهازياً.
لا بد من التمييز بين نتفلكس جهة إنتاجية، وجهة عرض، فالباقة الفلسطينية من الأفلام المستحوذ عليها للعرض على المنصة ليس فيها فيلم واحد من إنتاجها، وإنما هي إنتاجات مشتركة من جهات عربية وأوروبية، وتبني نتفلكس عرضها لا يعبر عن موقفها من قضية الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما يعبر عن النزعة التوسعية الربحية للشركة الطموحة التي باتت تنافس كبريات شركات الإنتاج السينمائي الهوليودية.
من ناحية الإنتاج، موّلت نتفلكس قصصاً فلسطينية ناطقة بالعربية لمخرجين إسرائيليين، كفيلم "عاصفة رملية"، 2016، للمخرجته إيليت زيكسر. وهو فيلم يعرض لأحوال المرأة الفلسطينية في المجتمع البدوي في جنوب، ويبرز دور التقاليد القبلية الذكورية في تقييد حريتها، غاضاً النظر عن المشكلة الأساسية التي تكبّل حرية الفلسطيني، ألا وهي مشكلة الاحتلال.
تضم الباقة الفلسطينية أفلاماً لأكثر من عشرين مخرجة ومخرجاً فلسطينياً، تدور كلها في فلك الصراع العربي الإسرائيلي، لكنها تقاربه من زوايا مختلفة اختلاف الرؤى الذاتية، ومتباينة تباين التقنيات والأساليب السينمائية.
اقرأ أيضا: صائد الخنافس الذي اصطادته امرأة.. قراءة في رواية
الأفلام تحمل أسماء مخرجات ومخرجين أصحاب تجربة ممتدة لأكثر من عقدين ماضيين مثل إيليا سليمان، وهاني أبو أسعد، وآن ماري جاسر، ونجوى نجار، ومي مصري.
إضافة إلى مخرجين تنتمي تجاربهم إلى العقد الثاني من الألفية مثل فرح النابلسي، ومهدي فليلفل، وفراس خوري، وراكان مياسي، وباسل خليل، وعامر الشوملي، وأمين نايفة.
التوقيعات النسائية واضحة في الباقة، ومن خلالها تبرز شخصية المرأة الفلسطينية في معترك النضال والتحرر، ونراها تحمل حصتها من المعاناة والتضحية، ونسمع صوتها الخاص في التعبير عن رؤيتها لقضيتها وهويتها.
اشتملت الباقة على أفلام طويلة حصدت جوائز عديدة في مهرجانات السينما الدولية، وأخرى قصيرة مثل "الهدية" للمخرجة فرح النابلسي، و"العبور" لأمين نايفة، و"السلام عليك يا مريم" لباسل خليل، و"بنبونة" لراكان مياسي، و"إجرين مارادونا" لفراس خوري، و"كأننا عشرون مستحيل" لآن ماري جاسر، ومجموعة أفلام لمهدي فليفل منها "ثلاثة مخارج منطقية" و"رجل يغرق" و"رجل عائد".
واشتملت الباقة أيضاً على أفلام وثائقية أبرزها "المطلوبون ال 18" للمخرجين عامر الشوملي وباول كاون، استخدما فيه تقنيات الكومكس والإنيميشن في إحياء قصة العصيان المدني في مدينة بيت ساحور إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام1987.
وبثّ الفيلم روح الدراما في جسد الفيلم الوثائقي من خلال تحويل أربع بقرات إلى شخصيات إنسانية ناطقة ومعبرة عن مفارقات مريرة وساخرة خلال محاولة المدينة بأكملها التمرد على سلطة الاحتلال بجهود جماعية وطريقة عبقرية.
اثنان وثلاثون فيلما فلسطينياً تتحدث عن نفسها، وتحمل قضيتها إلى العالم عبر أوسع بوابة للعرض السينمائي، فمن أي زاوية نظر المخرجون إلى قضيتهم، وكيف قدموها؟