انفراد تام بالقرار والرأي، استحواذ على جميع السلطات، وتوزيع اتهامات تخوين بالجملة، هذه هي صورة حاكم قرطاج، الرئيس قيس سعيد، الذي يواصل اتخاذ إجراءاته، لتتواصل معه الأزمة السياسية، التي وصفت بالأشد والأعمق في تاريخ تونس وسط تحذيرات متتالية من انهيار وشيك قد يسقط البلاد.
إفلاس آلاف المؤسسات، ارتفاع في نسبة البطالة، خزينة الدولة شبه مفلسة، ارتفاع جنوني في الأسعار وأدوية مفقودة، ورواتب تتأخر مع كل شهر وتوقعات باستحالة توفرها مع بداية السنة الجديدة، هذه هي حال البلاد بعد أشهر طويلة من قرارات استثنائية وصفت بالانقلاب، جمد سعيد بمقتضاها البرلمان وشكل حكومة يقول عنها أغلب المتابعين إنها لتصريف الأعمال ولن تعمر طويلا.
وتشير أغلب التوقعات إلى أن البلاد تسير إلى السقوط، في وقت تعالت فيه الأصوات الرافضة لإجراءات سعيد وتطالب بتحديد سقف زمني لها مع مبادرات لإطلاق حوار وطني شبيه بحوار 2013.
تسقيف
واتسعت رقعة المطالب الصادرة عن شخصيات سياسية وقانونية لتحديد سقف زمني واضح للإجراءات الاستثنائية وضرورة إنهائها قريبا لأجل عودة سير دواليب الدولة بشكل عادي والخروج من الأزمة المستمرة منذ أشهر طويلة، والدعوة الأبرز منذ يوم تأتي من اتحاد الشغل كبرى المنظمات النقابية العمالية.
اقرأ أيضا: قيس سعيّد يحث التونسيين على التبرع للدولة.. وسخرية
وطالب الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي، الرئيس بتوضيح الرؤية وتسقيف التدابير الاستثنائية، بالنظر إلى التخبط والضبابية والصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد.
وأكد الطبوبي ضرورة مصارحة الشعب بحقيقة الأوضاع، منتقدا بشدة التفرد بالسلطات والقرار.
بدورها حذرت أستاذة القانون الدستوري البارزة سلسبيل القليبي من أن تواصل استحواذ الرئيس على كافة السلط يعد وضعا خطيرا خاصة في حالة عدم تسقيف الآجال.
ولكن رئيس الجمهورية وخلال اجتماع وزاري الخميس ولأول مرة، أعلن نيته اختصار مدة التدابير الاستثنائية دون تحديد سقف واضح ودقيق.
تفرد ولا تفاعل
ويقول الكاتب والصحفي كمال الشارني في قراءة تحليلية خاصة لـ"عربي 21" معلقا على تواصل أزمة تونس السياسية منذ أشهر طويلة، إن "رفض الرئيس للجميع أصبح أكثر وضوحا مع كل أزمة جديدة ويؤكد ما كان يقال إنه يخفي خطة تدريجية للذهاب نحو نظام حكم مجالسي، كما يؤكد رفض الرئيس لكل الوسائط الديمقراطية، ليس الأحزاب فقط، بل أيضا المجتمع المدني وأقصد هنا اتحاد الشغل".
ويعتبر الصحفي الشارني أن "رفض الرئيس للوسائط وانفراده التام بالرأي وجمعه لكل السلط يشمل حتى أعضاء الرباعي الراعي للحوار رغم ما لهم من رصيد ومساهمة كبيرة في الخروج بنا سابقا من أزمات مماثلة، وفي هذا الاطار، لا نتوقع أي رد فعل إيجابي على مبادرة رابطة حقوق الإنسان".
ويؤكد الكاتب كمال الشارني أنه "مع اتضاح نوايا الرئيس في الحكم الفردي، تزداد بلادنا انحدارا نحو الأزمة المالية غير المسبوقة خصوصا لعدم وجود مؤشرات الخروج منها بما يضفي المزيد من مشاعر الإحباط والتوجس والخوف من المستقبل، وهو ما يؤدي إلى عزوف الاستثمار وربما هروب رأس المال".
وكان رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان جمال مسلم قد دعا الخميس إلى "تشريك مكونات الرباعي الراعي للحوار (اتحاد الشغل، والأعراف، وهيئة المحامين، والرابطة)، إلى تقديم تصور في كيفية الخروج من الأزمة بحوار تشاركي لإيجاد حلول للوضع الاستثنائي الذي يجب تسقيفه زمنيا".
قطار الشرق السريع
ويستحضر الأستاذ علي المسعودي متحدثا عن أزمة تونس السياسية، وفي قراءة تحليلية لـ"عربي21" رواية أغاثا كريستي "جريمة في قطار الشرق السريع"، قائلا إن "الجريمة في راهننا السياسي التونسي وقعت بعد أن تمّ قتل ما بقي من جسد الديمقراطية المنهك ولكن في العلن وتحت تصفيق البعض، والمتّهمون تقريبا هم كل الطبقة السياسية إما بالمشاركة السلبية أو بالتواطؤ والصمت بالنظر إلى وجود الدافع لدى الجميع".
اقرأ أيضا: سعيّد يعتزم "اختصار" المدة الاستثنائية والقضاء يرفض الضغط
ويتساءل الأستاذ المسعودي قائلا: "ولكن أين من كل ذلك السيد قيس سعيد؟ إنه بكل بساطة قطار الشرق السريع، الوعاء الذي يحتوي الكل ويكيّف الطبقة السياسية بحسب عزفه الانقلابي يصعّد أحيانا ويخفت حينا آخر، فقيس سعيد هو قطار الشرق الفاخر بشعاراته البراقة ونظافة غرفه وأبهة مطاعمه ولكن خلف كل ذلك تختفي جريمة قتل الديمقراطية الوليدة بدم بارد".
ويشبه محدثنا في تحليله "قيس سعيد بـ قطار الشرق، ولكنه قطار بلا فرامل، تزيد سرعته مع الوقت وقد ألغى كل المحطات على الطريق ما عدا وجهته النهائية وهي إرساء النظام المجالسي الموعود".
ويعتبر المسعودي أن "قيس سعيد ماض في تنفيذ رؤيته السياسية بقطع النظر عن حجم المعارضة الداخلية والخارجية وبغض النظر عن كل الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية، وبعيدا عن كل الطبقة التي استعملها بذكاء في القضاء على البقية الباقية من هيكل الديمقراطية العليل".
وأشار الأستاذ علي المسعودي إلى أنه "من سوء حظنا السياسي أن جميع الفاعلين التقليديين ليسوا أم الصبي فالحفاظ على بذرة الديمقراطية هي آخر همهم، و الدعوات إلى الحوار والتشاركية والنقد الخجول من بعض الأحزاب أو المنظمات ليست بدافع مبدئي".
وانتهى المسعودي إلى أن "الديمقراطية التونسية لا بواكي لها إلا الناشطون المستقلون، فلو رمى السيد قيس سعيد لهذه المنظمات والأحزاب بعظمة حوار شكلي لصمت الجميع صمت القبور، ولكن الأمل يبقى حيا لا ينكسر وفي رواية "آغاثا كريستي"، يتوقف قطار الشرق السريع قريبا من بلغراد بسبب انسداد الطريق وتراكم الثلوج عسى أن يتحوّل الشتاء الثلجي إلى ربيع مثل ربيع بلغراد".
دعوة قيس سعيّد إلى الحوار في تونس.. حقيقة أم مناورة؟
هل انحاز الإعلام العمومي في تونس للانقلاب؟ خبراء يجيبون
حكومة بودن.. شرعية مفقودة وولادة تحت الضغط (شاهد)