لا عنف طارئاً أو استثنائياً وقع في محلة الطيونة في بيروت مؤخراً على مقربةٍ من خطوط تماس الحرب الأهلية اللبنانية الأشهر، الشياح – عين الرمانة.
فالمقتلة التي أزهقت حياة سبعة أشخاص هناك، بينهم أمّ في مطبخ بيتها وعامل «دليفري» وخمسة عناصر من حركة أمل وحزب الله (كانوا في عداد مظاهرة حمل المئات فيها أسلحة خفيفة ومتوسّطة)، فصل جديد من فصول العنف والانهيار واندثار الدولة في لبنان المستمرة منذ سنوات والمرشّحة للاستمرار، بما يكاد يُنسي مع كل فصل ذاك الذي سبقه ومهدّ له.
وإن كان من لبنانيّين قد هالهم أو صدمهم ما حصل، فذلك لأنهم دفنوا في ذاكرتهم سلسلة أحداث وحروب أصابتهم في العقدين الأخيرين وظهّرت في كلّ مرّة حدّة العنف والكراهية وفائضهما في مجتمعهم.
فمِن اغتيال رفيق الحريري و21 شخصاً في 14 شباط/فبراير 2005، إلى سلسلة الاغتيالات والتفجيرات التي تلته (وسبقته) واستهدفت صحافيين وسياسيين وأمنيين، مروراً بالاشتباكات في بعض أحياء بيروت والمعارك في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في الشمال العام 2007، وصولاً إلى 7 أيار/مايو 2008 واجتياح حزب الله لعدد من مناطق العاصمة وقرى الجبل وإسقاطه بالقوة حكومة فؤاد السنيورة، وانتقالاً إثرها إلى الاقتتال في صيدا وفي الأحياء الشعبية في طرابلس بين شبّان جبل محسن والتبّانة بين العامين 2009 و2014، التي تخلّلها واستمرّ من بعدها ولغاية العام 2018 انخراط آلاف مقاتلي حزب الله في الحرب الطاحنة في سوريا دفاعاً عن نظام الأسد وخدمةً للسياسة الإقليمية التوسّعية الإيرانية في المنطقة، توالت فصول العنف والقتل في لبنان أو بواسطة لبنانيين وأودت بحياة مئات الأشخاص. ولا يخرج عن السياق العنفي هذا عنف الانهيار المالي والمصرفي الذي نهب أملاك الناس ومدّخراتهم، وعنف الانفجار الإجرامي في مرفأ بيروت صيف العام 2020 الذي قتل وجرح وشرّد الآلاف ودمّر أحياء في العاصمة، وعنف الجيش والقوى الأمنية وعناصر حزب الله في اعتداءاتهم على المتظاهرين والمعتصمين منذ بدء الانتفاضة الشعبية اللبنانية العام 2019، وعنف الاشتباكات قبل أشهر قليلة في خلدة بين الحزب الشيعي إيّاه ومسلّحين ينتمون لعشائر من أهل المنطقة، أدّت – لأسباب ثأرية ومذهبية وسياسية – إلى مصرع عدد من الأشخاص.
يضاف إلى كل ما ورد، أن لبنان شهد العام 2006 حرباً إسرائيلية تدميرية قتلت المئات، رافقتها وتبعتها صراعات سياسية داخلية نتيجة الموقف من حزب الله وسلاحه وفرضه أجندة خارجية على اللبنانيين ممّن يوالونه أو يرفضون خياراته. وانجرف يومها كثر في حسابات وأوهام متناقضة جسّدت بمجملها عمق الانقسامات الأهلية واستسهال العنف من ناحية أو الرهان عليه ولَو أتى عبر حرب عدوانية لتوظيفه ضد الخصوم في السياقات الصدامية الداخلية من ناحية ثانية.
بهذا المعنى ووِفق ما جرى ويجري في البلد المنكوب، ليس في الرصاص القاتل الذي شهدته الطيونة في 14 تشرين الأول/أكتوبر 2021 خلال مظاهرة حزب الله وحليفته حركة أمل ضد القاضي بيطار، المحقّق في جريمة تفجير مرفأ بيروت والرافض الخضوع لإنذارات وتهديدات السيد حسن نصر الله، جديداً معيشياً أو أمنياً مختلفاً عن المصائب والجرائم المتراكمة التي شهدها لبنان في عقدين من الزمن.
الجديد، أو المستجدّ في ما حصل، هو في الحقيقة في موضع آخر: في مدلولاته السياسية وفي التداعيات المحتملة الناجمة عنه. ويمكن هنا التوقّف عند ثلاث مسائل بالغة الأهمية والدلالات.
الأولى، أن ما جرى شكّل أوّل صدام ميداني مباشر بين حزب الله (وحركة أمل) من جهة وقوّة سياسية وشعبية (تملك بنيةً أمنية وذاكرة عسكرية) مسيحية من جهة ثانية (ولَو أنها، أي القوّات، لم تعلن صراحةً مسؤوليّتها)، بعد أن كان اشتباك الحزب يقتصر في السنوات السبع عشر السابقة على مجموعات (جلّها غير مدرّب) سنّية (ومرّة وحيدةً درزية). وهذا يعدّل جدّياً في توازناتٍ كان يعدّ أنه حيّد المسيحيّين عنها واتّخذ من بعضهم غطاءً له في الشارع كما في مؤسسات الدولة ورئاسة جهوريتها. وربطاً بذلك، بدا في ما جرى أن ثمة بين القوى المسيحية المنظّمة من بادر إلى استخدام السلاح ليرسم حدوداً جغرافية طائفية يُمنعُ المتظاهرون والمسلّحون الشيعة من تجاوزها أو من اعتبارها أرضاً مباحةً لهم أو أقلّه محايدة تجاههم.
وفي الأمر ما يضع الحزب الشيعي في مواجهة ادّعاءاته كحامٍ للمسيحيين وللسلم الإهلي، ويُضيف إلى رافضي سلاحه وسطوته قوى صارت جاهزة للتمثّل به والبحث عن تسلّح وتدريب وتنظيم لِمُجابهته. وفي الأمر أيضاً ما يوهِن رئيس الجمهورية ميشال عون وفريقه ويُضعف موقِفه (البليد أصلاً) بعد أن ظنّ أنه استعاد عبر صُهره جبران باسيل زمام المبادرة لحظة تشكيل حكومة رجل الأعمال نجيب ميقاتي. وفيه كذلك ما يوهن رئيس المجلس النيابي نبيه برّي الذي تضيق هوامش المناورة أمامه كلّ ما تفاقم الاصطفاف المذهبي في الشارع، إذ يصبح وجمهوره ملحقَين بحزب الله وبعباءة أمينه العام.
المسألة الثانية تتّصل بأهداف المظاهرة التي دعا إليها الثنائي الشيعي، والتي رفع مئات الشبّان فيها بنادقهم وقاذفاتهم الصاروخية، وساروا باتجاه قصر العدل، حتى قبل أن يفتح قنّاصةٌ النيران عليهم وعلى غيرهم. فبعد حملة تهديد مبطّن أولاً ثم سافرٍ لاحقاً قادها أمين عام حزب الله ضد التحقيقات القضائية في جريمة تفجير مرفأ بيروت، اتّخذ رفض مثول حلفاءَ للحزب أمام القضاء بُعداً جديداً عبر الحشد في الشارع وشهر السلاح والتلويح به وشحذ العصبية المذهبية واستجلاب نظريات تآمر واستهداف. وفي هذا ما يظهّر رفض حزب الله لتحقيقات لبنانية كان في السابق ينادي بها لتبرير رفض التحقيقات الدولية في تفجير الحريري وسواه، مما يعني ببساطة أنه ضد أي تحقيق في جرائم في لبنان، إن لم يكن هو المحقّق والمقرّر في هوية المتّهمين بارتكابها. والمسلك المذكور يَحُول بالطبع دون إعمال المساءلة والمحاسبة ويحمي حصانة المرتكبين ويساهم في إبقاء البلد أرضاً للإفلات من العقاب القانوني ولتنفيذ الجرائم دون خشية النتائج والتبعات.
أما المسألة الثالثة، فعلى علاقة بمعنى الحرب الأهلية في بلد مثل لبنان اليوم. ذلك أن الشكل القديم للاحتراب والتموضع في مناطق مسيّجة بخطوط تماس بات متعذّراً، لأن الديموغرافيا وجغرافيّاتها تبدّلت وتداخلت، ولأن الحزب الشيعي المدجّج بالأسلحة قوة ضاربة ولَو أن غرور القوة يمكن أن يوقعه في مطبّات وكمائن كبيرة، ولأن لا بنية اقتصادية داخلية لحرب طويلة في لبنان، ولأنه أخيراً لا قرارات في الظرف الإقليمي والدولي الراهن يمكن أن تدفع لتأسيس بؤرة اقتتال متواصل ومرتفع الكلفة (أي أبعد من تفجير هنا أو معارك متفرّقة ومحدودة هناك).
لكن ثمة، في المقابل، أشكال جديدة للحرب، فيها ما ذكرناه بدايةً وما وقع في الطيونة وما خبره اللبنانيون لسنوات طويلة، وفيها استمرار الإفقار والتهتّك والخراب الاقتصادي والمالي وما ينجم عنه من مآس فردية وجماعية، وفيها المزيد من الانقسامات وتنامي العدوانية وعودة الخطاب الطائفي والمذهبي للتصاعد بعد أن حاصرته الانتفاضة الشعبية وجيلها على مدى أشهر خلال العامين 2019 و2020. وفيها فوق ذلك أشباح حرب وكتّاب تحريض وسكاكين، بعضهم محترف في صحف وفي منابر إعلامية، وبعضهم الآخر تُطلق العنان لهتافاته وحميّته وسائل تواصل اجتماعي تتحوّل في ظروف التوتر والاحتقان إلى مواضع فجور وهذيان جماعي.
والأشكال الحربية «الحديثة» هذه جميعها مرشّحة للتمدّد في لبنان، طالما أن ثمة فيه من يعدّ نفسه في مرتبة أعلى من الناس ومعاناتهم الحياتية وأعلى من القوانين والمؤسسات والمصالح الوطنية…
نقلا عن (القدس العربي)