تتواصل التحرّكات الشعبية ضد النظام الأسدي في
السويداء جنوب
سوريا منذ ثلاثة أسابيع، وتُعيد مشهديّتها إلى الأذهان جوانب من مشهدية الثورة السورية في العامين 2011 و2012، ولَو أن الفوارق كبيرة بين الحقبتين، داخل البلاد وخارجها.
ورغم أنها ليست المرة الأولى التي ينتفض فيها جبل العرب، بعد مظاهرات أهله الواسعة في بدايات الثورة، وبعد «حركة رجال الكرامة» بقيادة الشيخ الشهيد وحيد البلعوس رفضاً للتجنيد الإجباري وإرسال أبناء المنطقة لقتال مواطنيهم في مناطق أخرى في العامين 2014 و2015، إلا أن ما يجري اليوم بعد كلّ الأهوال التي شهدتها سوريا وتحويل عدد من مدنها وقراها إلى حطام، استثنائيّ الأهمية ويؤكّد تجذّر كراهية النظام الأسدي وسعة الرفض الشعبي له ولداعميه في المنطقة المذكورة وفي سواها.
ولعلّه من المفيد التوقّف عند بعض خصائص الحدث الدائر ودلالاته، بمعزل عمّا يمكن قوله لاحقاً عن نتائجه ومآلاته وتداعياته المحتملة.
فاللافت بدايةً في انتفاضة السويداء والبلدات المحيطة بها هو عمر كثرة من المشاركين فيها، ممّن تكوّن وعيهم السياسي خلال السنوات العشر الأخيرة، فشبّوا وتسيّسوا على وقع القصف والتهجير وأخبار الحصار والتعذيب والاحتلالات، ولم يُثنِهم الأمر عن اعتبار التحرّر من الجور والفساد والقتل قضيّتهم الأولى. وهذا يعني أنهم يستكملون ما بدأه قبلهم جيلان ممّن نشطوا في الحقل العام رغم مشقّاته. وليس رفعهم صوَر شهداء ومفقودين وأخوة وأقارب وأصحاب تشرّدوا وهاجروا إلا دلالة على العروة الوثقى التي تربطهم اليوم بقضايا من سبقهم.
اللافت كذلك، أن الحضور النسائي بارز، وبأدوار قيادية للتحرّكات، بمبادرات فردية أو منظّمة، وبشعارات جذرية تربط الكرامة الإنسانية بالحرّية، والعدالة بسقوط النظام ومحاكمة رئيسه. وهذا في ذاته إن تواصل، يوفّر للانتفاضة عمقاً اجتماعياً ويُغني معاني الحرّية المنشودة ومضامينها لتكون سياسية وثقافية في الوقت عينه.
وتُضاف إلى الخاصيّتين المذكورتين مسألتان سياسيتان بارزتان. الأولى، إصرار المتظاهرين والمتظاهرات من اليوم الأوّل على رفض أي فصل للشأن المعيشي الذي بدأت التحرّكات نتيجة تدهوره المتزايد عن الشأن السياسي، بما يمنع حصر الأمور بالمعطيات الاقتصادية. فالمسؤول عن التدهور الحاد في أحوال الناس بحسب شعاراتهم المرفوعة هو النظام. وهذا مهمّ لتجريده وأدواته من روايات تختصر الغضب بتردّي الظروف الحياتية نتيجة العقوبات ومنع إعادة الإعمار وغير ذلك من المقولات الساقطة.
المسألة الثانية هي وصل المحلّي بالوطني، بما يُنسّب التحرّكات إلى إطار أوسع وأرحب من خصوصية أكثرية المشاركين المناطقية أو المذهبية، ويعيد الاعتبار لدينامية سياسية معطّلة منذ تصعيد النظام لحربه الشاملة على المجتمع: الدينامية القائمة في الشارع حيث الحيز العام والتواصل وتخطّي الحواجز وبناء التجارب المواطنية.
تهاوي التطبيع ومنطقه
وما قد لا يقل أهمية عمّا ذُكر، إن استمرت الانتفاضة وتوسّعت، هو تجريدها النظام الأسدي من بعض مفاعيل التطبيع العربي معه التي عدّت مشروطيّة وقفه تهريب الكبتاغون وسماحه بعودة فئات من اللاجئين (الذين هجّرهم) في دول الجوار، كافية لتبرير تعويمه ووعده بالمساعدات والاستثمارات ودعوة الغربيين إلى التعامل معه، على اعتبار أن المناطق التي يسيطر عليها (بفضل الاحتلالين الروسي والإيراني) مستقرة ومعقود له فيها الولاء. فإذا بالمظاهرات والشعارات تظهر تهافت الاعتبار المذكور، بعد أن أظهرت سلوكيّات النظام نفسه تهافت الرهانات على استجابته للمشروطية العربية.
وهذا يوصلنا إلى ما يمكن توقّعه في المقبل من الأيام والأسابيع.
الظاهر حتى الآن، أن أجهزة النظام تحاور بعض أعيان المنطقة ومشايخها، وتعد بفتح معابر مع الأردن وتأمين مساعدات لمحاصرة التحرّكات الشعبية، متجنّبة الاصطدام بها ومراهنةً على الوقت لترنّحها.
لكن ماذا إن فشل رهانها؟ وماذا إن تواصلت التظاهرات واتسّع نطاقها؟ هل يمكن توقّع القمع الدموي الذي عادة ما يلجأ إليه النظام؟
تصعب الإجابة عن السؤال اليوم لعدّة أسباب.
أوّلها أن النظام الذي اعتمد في العقد الماضي سياسات عنف تجاه المتظاهرين قائمة على منطلقات طائفية ومناطقية وطبقية، جنّب السويداء ومدناً مثل السلمية والقامشلي وعامودا، حيث كانت التجمّعات والمسيرات حاشدة، القتل العشوائي الذي كثّفه في المقابل في ضواحي المدن وفي المناطق الريفية والطرفية (حيث الديموغرافيا السنية الأشد فقراً). وكان قتله في المدن المعدّة معاقل «للأقليات» قتلاً انتقائياً يستهدف المنظّمين للتظاهرات وأنشطة الإغاثة والإعلام ومنسّقي شبكات التضامن، فيغتالهم أو يعدمهم تحت التعذيب، من دون تعميمٍ يطال محيطهم، بهدف ادّعاء حماية لهذا المحيط في مواجهة «أكثرية عنيفة تهدّد التنوّع والتعدّد الديني والثقافي»، على ما ردّدت دعايته. وهو نجح في تحييد هذه المدن لاحقاً عن المعارك وعن الحرب التي شنّها على أجزاء مختلفة من سوريا. لكنّه ملزم اليوم بردّ وبسياسة مماثلة لما اعتمده في الماضي أو مختلفة عنها، قد لا يملك في الحالين مقوّمات بلورتها.
وهذا يحيلنا إلى ثاني الأسباب، أي إلى كون الخيارات الاستراتيجية للتعامل مع «الأزمات» محصورة بشكل خاص في أوساط القيادات الروسية والإيرانية المتحكّمة بالسياسة والميدان في سوريا. فهي من يتّخذ القرارات وثمة ما يتسرّب عن تباينات أحياناً في أشكال مقارباتها الأمنية للتعاطي مع «التحدّيات». وهي من يُحاول أن يستثمر في كل تطوّر لتطويعه لصالح حضورها واحتلالها للمناطق المختلفة. وهذا يؤجّل أحياناً السير في خيارات محدّدة، أو يُفضي إلى تنافس بين النافذين على من تكون له اليد الطولى في بسط المزيد من النفوذ و«تذليل» المصاعب.
لهذين السببين ولغيرهما، قد يكون من المبكر توقّع أشكال تعامل النظام بإيعاز وتحريكٍ من راعيَيه مع التظاهرات، خاصة إن تواصلت.
الأهم ربما هو التذكير بأن التحدّي المطروح على المتظاهرين، قبل رد النظام المحتمل وبعده، يرتبط بمدى قدرتهم على توسيع المشاركة في التحرّكات وتحصينها وتنويع أشكالها. وهم في أي حال، ومهما كانت مآلات انتفاضتهم التي أعادت التذكير بأيام جمعة واكبها السوريون على مدى عامين بآمالاهم وصبرهم ودموعهم، يبدون كمن يستأنفون ثورة مغدورة، أو بالأحرى كمن يهدون تلك الثورة روحاً جديدة وحياة جديدة لبرهة قد لا تطول كثيراً، لكنها بلا شكّ ستتجّدد تكراراً وتباعاً.
وهذا في ذاته، هو على الأرجح أبلغُ ما فيها.
(القدس العربي)