لطالما كان
لبنان مختبر الشرق، منه تنطلق الشرارات وعليه تنعكس. لبنان هذا اليوم يعيش أسوأ أيامه، فعُملته تنهار، وقطاعات الصحة والغذاء والتعليم تحتضر، وعجلاته لم تعد قادرة على التحرك، ومواطنه المفلس حائر بين الهجرة والجوع. في هذه الظروف التي لم يشهدها لبنان من قبل ولا حتى في زمن الحرب، يفشل السياسيون في تشكيل حكومة، أي حكومة، فيذهب الشهر تلو الشهر دون اكتراث السياسيين بالواقع المعيشي، ودون مبالاة لمآلات سياساتهم السلبية إزاء مأساة الشعب.
كل يوم يتوقع اللبناني أن تشفق عليه هذه الطبقة السياسية وتحاول دفع العجلة السياسية إلى الأمام، علّها تدفع العجلة الاقتصادية معها، ولكن عبث! فاعتذر مصطفى أديب عن تشكيل الحكومة، بعده لاقى الحريري المصير نفسه، ويوشك الميقاتي بكل ما حظي به من دعم دولي عند تكليفه أن يلاقي المصير نفسه.
وفي ظل هذه التخبطات التي يختلط مصدرها بين حسابات القوى الدولية والإقليمية - من إيران إلى أمريكا، فالسعودية وغيرها - والحسابات الداخلية الانتخابية الشخصية والطائفية، يصر كل طرف سياسي على موقفه نظرا لاختلاف أولوياته عن أولويات الناس. فالتمسك بحقيبة المالية مهم للشيعة لتثبيت التوقيع الثالث، والحصول على الداخلية مهم للرئيس عون؛ كونه يضمن له الإمساك بمفاصل الدولة في حال تعطلت المؤسسات المنتخبة، بينما يصر الحريري على الإمساك برئاسة الحكومة بشكل مباشر أو غير مباشر خوفا على مستقبله السياسي.
من رحم هذه المعاناة، أدرك اللبناني أن تركيبة النظام هي المشكلة، فهي التي تسمح لكل زعيم أن يتلطى وراء طائفيته عند كل مصلحة شخصية، فيصبح الدفاع عن الحريري مثلا واجبا؛ لأن خسارة الحريري أمام أقرانه من باقي الطوائف خسارة للطائفة، إذا خسارة لكل فرد من أفرادها، فينجر اللبناني بشكل لا واع للدفاع عن زعيم طائفته؛ لأن هذا هو ما يمليه عليه النظام.
لقد خرج اللبناني ليطالب بإلغاء
الطائفية السياسية وتغيير النظام اللبناني، بحيث يصبح لا طائفي قائم على دولة المواطن، ليتسنى له بذلك الخروج من دوامة الصراع الطائفي الذي لا ينفك يلاحق كل صغيرة وكبيرة في هذا النظام المهترئ. ولكن على عكس الطموحات، وعلى الرغم من تصاعد الحديث عن تغيير في النظام اللبناني، تعذر تشكيل الحكومة لعدة مرات متتالية، وتعالي أصوات فاقدي الأمل بدوران عجلة لبنان بغير تغيير في النظام الذي لا يعمل إلا بالتوافق السياسي بين زعماء الطوائف، وهو التوافق الغائب منذ مدة بخاصة بعد الخلاف بين عون والحريري.
هذه الأصوات تختلف خلفيتها بين مدافع عن المسيحية السياسية مطالبا بإجبار رئيس الحكومة المكلف على التشكيل في مدة زمنية محددة، ومدافع عن السنية السياسية، فيطالب بكف يد رئيس الجمهورية عن تعطيل تشكيل الحكومة، وبين خلفيات شيعية متربصة لتحويل النظام كليا إلى مثالثة. وبين هذا وذاك، يظهر الصوت المطالب بصرف النظر كليا عن الطائفية السياسية.
إن من تبعات احتجاجات 17 تشرين وانفجار مرفأ بيروت (4 آب/ أغسطس)ـ تشكل قناعة كبيرة لدى أًصحاب الرأي الحر بضرورة الحد من تغلل الطائفية في النظام اللبناني، ولكنهم في الوقت نفسه يدركون أن عقارب ساعة السياسة اللبنانية تدور في الاتجاه المعاكس.
إنه وإن كان الشارع يتوق لإلغاء الطائفية السياسية، وعلى الرغم من أن الواقع السياسي يؤشر بتغيير في النظام، بخاصة إذا اعتذر الرئيس ميقاتي، ما ينذر بدخول لبنان إلى جهنم كما بشّر بذلك رئيس الجمهورية، إلا أن هذا
التغيير لن يكون نحو نظام لا طائفي، بل نحو نظام أكثر طائفية تتوزع فيه القوى السياسية، لا على فئتين بل ثلاث، فينقسم اللبنانيون مجددا أكثر فأكثر على الرغم من إدراكهم أن الحل هو في الاتجاه المعاكس. إلا أن السياسة ليست في التمني بل في القوة، وإن القوى السياسية الطائفية ومن خلفها داعموها الدوليون هي القوة المتحكمة في البلد، التي تفعل ما تريد لتترك اللبناني الحالم ببناء لبنان موحد سيد حر مستقل ولا طائفي؛ يائسا مدركا لمستقبل البلاد الذي سيزيد ظلاما بعد تشكل هذا النظام الجديد.
إلا أن الأمور لا تقف هنا، بل هي مؤشر على ما يحدث في المنطقة، كل المنطقة، فالشعوب الطامحة بالاستقلال والحرية والعيش بكرامة ورفاهية والداعية للوحدة؛ صعقتها قوى الأمر الواقع بالقمع والاستبداد. إن هذه الشعوب أيضا فوق كل ما تعانيه في سبيل الحرية؛ قد تواجه بلدانها قريبا مصير التقسيم الطائفي والمناطقي، فتعود عندها عقارب الساعة للوراء، بعد أن كانت هذه الشعوب تطمح وتتوق كالشعب اللبناني إلى الحرية والسيادة والاستقلال.
سنين عجاف ستمر على الوطن العربي يكون الطموح فيها الحفاظ على حدود سايكس بيكو، كما يكون طموح اللبناني أن يظل لبنانيا، لا أن يتحول إلى لبناني مع رقم "الكانتون" الطائفي الذي يعيش فيه.