قضايا وآراء

لعبة الجغرافيا الاقتصادية في أفغانستان

1300x600
يخرج المحتل الأمريكي بعد تجربة عمرها 20 عاماً، وهي الأطول في تاريخ الاحتلالات الأجنبية لأفغانستان؛ بالتجربة نفسها التي خرج بها سلفه البريطاني والسوفييتي، وهي أن لا حل عسكرياً ولا حل أجنبياً لأفغانستان. ومع كل خروج عالمي من المسرح الأفغاني، يقفز لاعبون محليون أفغان، وإقليميون مجاورون لملء فراغ كبير خلفه رحيل تلك القوى الكبرى.

وبعيداً عن الصراعات السياسية والأيديولوجية التي نمّطت الصراع الأفغاني، والهزيمة المشينة للولايات المتحدة في أفغانستان، بحسب توصيف صحيفة التايمز البريطانية، وكذلك توصيف وزير الخارجية الصيني وهو يستقبل الوفد الطالباني؛ بأن التدخل الأمريكي لأفغانستان لعشرين عاماً كان "فاشلاً"، فإن الصراع على الموقع الجغرافي- الاقتصادي هو الأهم ربما، وهو ما تتطلع إليه القوى الإقليمية، كل بحسب مصلحته وقدراته وإمكانياته واستعداداته لتلك الجائزة، وإن كانت الصين تقف على رأس المنتظرين لتلك الجائزة.

الموقع محنة أم منحة؟

تُعد أفغانستان من الدول الحبيسة القليلة في العالم، حيث لا منفذ لها على البحر، وهو ما يجعلها أسيرة الدول التي توفر لها هذه الإطلالة، وعلى الرغم من أن القانون الدولي يجبر الدول التي تتحكم بمنفذ أي دولة على البحر على توفير هذه الميزة لها، فإن الموقع هذا ظل أسير تعقيدات بيروقراطية وإدارية على الدوام بين باكستان وأفغانستان.

ولكن بقدر ما تحتاج أفغانستانُ باكستانَ في المنفذ البحري، تحتاج باكستانُ أفغانستانَ في توفير عمق عسكري بمواجهة الهند، بالإضافة إلى تهدئة عرقية البشتون في باكستان، والذين يشكلون حوالي 40 مليون نسمة، وهذا ضعفا نسبة البشتون في أفغانستان، بالإضافة إلى قدرة موقع أفغانستان على تقديم خطوط ترانزيت لها ولحلفائها، للوصول لأسواق آسيا الوسطى وما بعدها من أسواق.

أتوسترادات للأسواق العالمية

يُحاذي إقليم سينكيانغ الصيني (تركستان الشرقية) أفغانستان بحدود تصل إلى 56 ميلا، ويعد لسان واخان النافذة الأفغانية الوحيدة على الصين وبالعكس، مع مشروع مارشال الصيني الاقتصادي العالمي للوصول إلى الأسواق العالمية لتسويق بضائعها ومنتوجاتها، المعتمد على استئناف خط الحرير القديم، أو ما بات يعرف اليوم بـ"طريق واحد.. حزام واحد". وقد كلّفها مئات المليارات من الدولارات للاستثمار في بنى تحتية في باكستان وأفغانستان وإيران، أملاً في الوصول إلى أسواق آسيا الوسطى، ومن ثم إلى المنطقة العربية فإيران وتركيا وأوروبا.

مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سارعت الصين لملء الفراغ، بدعوة الوفد الطالباني ليومين متتالين، حيث التقى الوفد وزير الخارجية الصيني وشدد على أن "طالبان قوة عسكرية وسياسية مهمة في أفغانستان"، في حين طمأنت طالبان الصينيين بأنها لن تقوم بالسماح لأحد باستهداف أمن الصين من أراضيها، وهي إشارة إلى مسلمي الإيغور الذين يقاتلون في صفوفها منذ سنوات طويلة.

لعل ما يطمئن الصين في التعهد الطالباني أمران؛ الأول: أن الضامن الطالباني هو باكستان التي تحظى بعلاقات تاريخية وتقليدية مع الصين، والثاني: أنّ التجربة التاريخية أثبتت أن طالبان لم تكن امتداداتها الأيديولوجية إلاّ نحو باكستان وكشمير، وليس تجاه الصين ولا حتى وسط آسيا.

وربما هنا تُقرأ زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى نيودلهي، وبحثه مسألة أفغانستان والصين، إذ إن واشنطن تسعى إلى تحريك نيودلهي للتشويش على الصين، وحتى على باكستان في عملية ملء الفراغ الأفغاني.

لعبة أنابيب الغاز مجدداً

شكلت لعبة أنابيب الغاز التركماني جزءاً كبيراً من المشهد الأفغاني في التسعينيات، بعد استيلاء طالبان على السلطة، وتنافس الشركات الأمريكية يونوكول باستشارة المبعوث الأمريكي لأفغانستان زالماي خليل زادة والأرجنتينية بريداس، والتي يدعمها كما قيل الأمير تركي الفيصل يومها كمدير للمخابرات السعودية، وذلك لمدّ أنابيب الغاز التركماني عبر أفغانستان وباكستان، ومن ثم إلى الهند فالشرق الأقصى. وقدرت كلفة المشروع يومها بعشرين مليار دولار، وكان من المتوقع أن تعود هذه الأنابيب على الخزينة الأفغانية بمليار دولار كحق مرور لهذه الأنابيب.

رتبت بريداس، شريكة شركة سعودية تدعى تنغركو، زيارة لوفد طالباني إلى أمريكا والتقى خلالها مسؤولين أمريكيين لعلها تعمل على تسويق الحركة سياسياً، لكن ذلك توقف لاحقاً بسبب الحروب التي لم تتوقف. ونتيجة العقوبات الدولية على إيران لم تتمكن تركمانستان من مدّ أنابيبها عبر الأراضي الإيرانية، ولذلك فإن باكستان معنية بشكل كبير بالحصول على هذه الميزة، التي لن تجني من ورائها مكاسب اقتصادية فحسب، وإنما مكاسب سياسية وديبلوماسية دولية، نظراً لتحكمها في موارد الطاقة للدول المستهدفة.

وبسبب تعثر هذا المشروع لعقود، بدأ بعض المتشائمين يطلقون عليه "أنابيب الأحلام" بدل أنابيب الغاز.

لا زلت أتذكر حين سقطت حكومة بي نظير بوتو بعد موافقتها على منح بريداس حق مد أنابيب الغاز من تركمانستان إلى أفغانستان، فباكستان فالهند. قالت لي في مقابلة خاصة عام 1998: لقد أسقطتني شركة يونوكول منافسة بريداس لأنني حرمتها من عقد أنابيب الغاز.

حرب الموانئ

منذ سنوات وحرب موانئ خفية تدور في المنطقة، فالصين تسعى إلى تشديد قبضتها على المنطقة بمظهر اقتصادي، ولكن على المدى البعيد لأهداف جيواستراتيجية عسكرية. فقد وقعت الصين عقوداً تصل إلى 50 مليار دولار مع باكستان لتشغيل ميناء جوادر على بحر العرب، بالإضافة إلى سكك حديدية وطرق ضخمة من الصين إلى جوادر، وهو ما سيوفر عليها اختصار المسافة القادمة من بحر العرب إلى أراضيها، من ستة آلاف كيلومتر إلى 2500 كم فقط.

مثل هذا الميناء يحظى بعمق مياهه، وهو ما يمكن البوارج الضخمة من الرسو فيه، ومن ثم استخدامه لأهداف عسكرية مستقبلاً. ذلك ما أقلق الاستراتيجيين الأمريكيين والغربيين، وأن تغدو الصين على حافة بحر العرب لتتحكم بمصادر الطاقة لأوروبا واليابان، فضلاً عن تهديد للهند من خلال توفير ميناء ضخم بهذا الحجم لمنافستها باكستان، بديلاً عن ميناء كراتشي الذي إن تمت محاصرته في حال اندلاع أي حرب مع الهند فستكون البلاد في حالة شلل كامل، مما يجعل ميناء جوادر بديلاً في مثل هذا الحصار العسكري.

ولذلك لا يستبعد خبراء ومحللون أن تكون استهدافات المهندسين والعمال الصينيين في بلوشستان جزءاً من حرب الموانئ التي تزعج دولاً إقليمية، وتُهمش - من ثم - موانئها. ويضرب البعض أمثلة على تراجع دور ميناء دبي وجبل علي في حال تم تشغيل ميناء جوادر بكامل طاقته بإدارة صينية.

لكن بعيداً عن الجانب العسكري فإن باكستان تأمل من خلال هذا الميناء في تسويق منتوجاتها لدول وسط آسيا، لا سيما في ظل الحكم الطالباني القريب منها إثنياً ولغوياً وتاريخياً، والذي لا تخفي وصفه بأنه العمق الاستراتيجي للعقلية العسكرية الباكستانية. وسعت عبثاً الهند على مدى سنوات طويلة للتحالف مع إيران من أجل تشغيل ميناء تشاربهار وبندر عباس، ليكونا البديل لميناء جوادر، لكن دون جدوى نتيجة البعد الجغرافي والنفسي مع الأفغان البشتون على حدود إيران.