اختلفت ردود الفعل على اعتذار سعد الحريري عن عدم تشكيل الحكومة اختلافاً شاسعاً. الصحافي العريق سمير عطا الله كتب ساخراً عن أسرار انتصار جبران باسيل على الجميع. وعماد الدين أديب اعتبر أن غربة جبران باسيل وغرابته جعلته بمثابة كائن فضائي. وإبراهيم الأمين جاءت مطالعته مليئة بالسخرية والشماتة. في حين ذهبت نايلة التويني أنه على جماعة رئيس الجمهورية أن لا يتسرعوا بإعلان الانتصار، لأنهم في تقديرها لن يجدوا سياسياً سنياً يحترم نفسه يقبل التكليف برئاسة الحكومة في عهد عون الخالد!
أما أنا فمضيتُ إلى الجانب الآخر. لقد رُحتُ أقدّر ماذا يكون على سعد الحريري القيام به بعد الاعتذار من مراجعة شاملة نقدية وعلنية، وأنّ عليه أن يعودَ إلى جمهوره، وإلى الرؤية الوطنية الكبيرة لوالده وللمسلمين السُنة. طالبتُه بذلك ليس لأنني على أملٍ فيه، أعني بأن تكونَ عنده شجاعة المراجعة، لأنني أعرفُ من أوساطه (فأنا لا أتواصل معه منذ العام 2017) أنه غارقٌ إلى أذنيه في تعداد "الخيانات" التي ارتكبها الآخرون في حقّه وسواء أكانوا حلفاء سياسيين أو من الأوساط الإسلامية التي كانت ولا تزال تلتفُّ من حوله مثل رؤساء الحكومة السابقين.
المطالبة بالمراجعة النقدية تتضمن برنامجاً سياسياً وإعلامياً بديلاً بعد أن تكرر الفشل..
لقد رأيتُ أنّ المطالبة بالمراجعة النقدية تتضمن برنامجاً سياسياً وإعلامياً بديلاً بعد أن تكرر الفشل ولسببين ذاتيين قبل الحديث عن الأسباب الأُخرى المتعلقة بالتسوية الرئاسية، وباستيلاء الحزب المسلُّح. والسبب الأول هو التفرد بدون داعٍ ولا مسوِّغ وفي محطات تكررت منذ احتلال بيروت عام 2008 ما نجح سعد الحريري في تفرده إلاّ في انتخابات العام 2009، مع أنه انكفأ بلا تعليل من بعدها.
وفيما عدا ذلك تساوى الفشل في حالتي الاندفاع والانكفاء. فقد اندفع على سبيل المثال طوال تسعة أشهر في مواجهة عون وباسيل، ثم انكفأ مرة واحدة. وفي الحالتين ما استشار أحداً من جمهور والده من أهل الخبرة والذين يريد منهم الآن أن يدعموه في الانتخابات القادمة. قبل قرابة العام وعندما رشّح نفسه لرئاسة الحكومة في مقابلة على قناة تلفزيونية محلية، ما كان أحدٌ من أصدقائه وخصومه يتوقع منه ذلك، وبخاصة أنّ حسان دياب كان قد فشل واستقال، ويوشك هو وعون أن ينتهيا معاً بعد انفجار المرفأ. الكلُّ كان محتاجاً إليه وكان يستطيع - قبل الترشح - أن يفرض شروطه. لكنه ما تحدث مع أحد ولا أصغى لأحد. وعندما انكفأ أخيراً بعد التجربة المريرة، ما سأل أحداً وأول من فوجئ باعتذاره رؤساء الحكومة السابقون الذين كانوا - مع المجلس الشرعي - مصرّين على عدم اعتذاره، وكان يُظهر حماساً لوجهة نظرهم.
ولأنني تعودتُ على اندفاعاته وانكفاءاته فقد كتبتُ قبل شهرٍ وبعد اجتماعه بالمجلس الشرعي داعياً له للاعتذار والذهاب بمراجعة وبرنامج إلى المعارضة. هل التفرد دليل شجاعة أو قوة شخصية؟ أبداً بدليل لجوئه دائماً وهو ينكفئ وبعد اندفاع إلى التعليل بالخيانة من جانب الأصدقاء والأعداء، ومن دون تأملٍ ولا مراجعة وإفادة من التجارب، بحيث يصبح التحولُ فشلاً وهزيمة.
أما السبب الثاني لمطالبته بالمراجعة والبرنامج بعد هذا الاستطراد الطويل، فهو طريفٌ حقاً ويتعلق بوعي الجمهور السني وحالته الذهنية في لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة. بعد الطائف ودستوره الذي رعته المملكة العربية السعودية وأنهى الحرب، طلع على لبنان من المملكة أيضاً رفيق الحريري.
والسعوديون والحريري أو بواسطة الحريري، وقد أعادوا بناء لبنان في زمن السلم، أنجزوا أيضاً وعياً جديداً عند السُنة بالذات بالوطن وبضرورة الزعامة الشاملة. ومن هذا الوعي الذي يتضمن أملاً لا شفاء منه بالخلاص على يد الزعيم، لا يزال سعد الحريري يستفيد ويعتمد. ويبلغ من سوء تقديره لالتفاف أهل السنة من حوله، قوله في إحدى المقابلات التلفزيونية إنه أفلس بعد أن كان مليونيراً لأنه أنفق فلوسه علينا (!).
الراحة مع المملكة والحريري الأب والتي عاشها أهل السنة، تزعزعت وتصدعت إلى حدود الزوال..
وعلى أي حال فإنّ الراحة مع المملكة والحريري الأب والتي عاشها أهل السنة، تزعزعت وتصدعت إلى حدود الزوال بعد استشهاده والأحداث العاصفة التي أحاطت بإنسانهم وعمرانهم. لكنّ سعداً بعد والده (وهم لم يجدوا بديلاً معتبراً) ظلَّ خشبة الخلاص في حالي الاندفاع الهائج أو الانكفاء الكئيب، لأنّ الأمل بالحريري لم يتضاءل لدى العامة على الأقلّ. إذا اندفع سعد مضوا وراءه متحمسين، وإذا انكفأ عكفوا عليه حانين ومشفقين!
دعوتُ سعد الحريري إذن للمراجعة ولاستعادة النهج الوطني والبرنامج الوطني، لأقول للجمهور إنّ تأييد الزعيم مرتبطٌ بالفكرة وبالمسلك السياسي وبالمصالح. وهذه الأمور الثلاثة تضاءلت مع سعد بل ضاعت. وبالطبع فإنّ ما نزل بأهل السنة خلال خمسة عشر عاماً، ما كان سعد علته، بل علته الرئيسية الذين قتلوا رفيق الحريري أو أفادوا من قتله.
لكنّ قيادة سعد ما وقتْ من خَطَرٍ ولا صانت مصلحة ولا بعثت على أمل ولا حفظت رئاسة الحكومة. ولذلك يكون علينا جميعاً وفي حالتنا الحاضرة، التماس البدائل بمراجعة تجربة القيادة، وتتبُّع أهوال الخصوم، والتفكير في طرائق وأساليب لحفظ المصالح مع نُخَبٍ جديدة ما أخذت فلوساً من سعد، ولا التمست رضا الحزب المسلَّح وجبران باسيل. وهذا الفوات للبرنامج والمصالح يبدأ بالدستور وبالعيش المشترك والسلم الأهلي والحرية والاستقلال، ولا ينتهي عند ضياع الوظائف في الدولة في عهد عون وباسيل وسعد الحريري!
البلاد في حالة خرابٍ كامل. ولا بد أن يتحمل العهد بكافة فروعه مسؤوليات الانهيار. وقد تعودنا في لبنان أن لا يراجع أحدٌ نفسه باستثناء وليد جنبلاط دون أن تترتب على "اعترافاته" مسؤوليات بالطبع. أما الآخرون وعلى رأسهم رئيس الجمهورية، فما عرفنا له مراجعة للسيرة والمسيرة منذ كان قائداً للجيش في الثمانينات من القرن الماضي. فلماذا نطمع أن يجترح سعد الحريري فضيلة المراجعة وهو دون غيره؟! وكما سبق القول: ما أردتُه هو أن يخرج المسلمون والوطنيون من الحالة الذهنية والنفسية الحاضرة فلا نكتفي بمقاطعة رئيس الجمهورية (وأنا أرى في المقاطعة واجباً وطنياً!)، بل نفكّر أيضاً في أنّ البلاد تحتاج إلى حكومة، وأنّ رئيسها ينبغي أن يكون غير سعد الحريري إنما على غير شاكلة حسّان دياب! وأن نفكّر منذ الآن أنّ رئيس البلاد المقبل لا يجوز بالطبع أن يكون على شاكلة الجنرال عون!