في مقاله (مرتبطان بلا رِباط) المنشور في 29 نيسان الماضي
على موقع الجمهورية، عرض الكاتب الروائي نائل الطوخي هَمًّا لُغويًّا يتعلّق بخُلُوّ
العربية الفصحى من أداة المِلكيّة، حيث اعتبرَ هذا الخُلُوّ نقصًا مُريبًا في اللغة
ينعكس بصورةٍ مباشِرةٍ على الغرض الأساسيّ مِن وضع اللغةِ وهو قُدرتُها على التعبير
عن المعنى المُراد.
وتذرّع الطوخيُّ بفصيلتَين من الكلمات تُثيران – في رأيِه
– هذه المشكلة بوُضوحٍ حالَ الاستعمال الفصيح، أولاهُما الكلماتُ المستعارةُ من لغاتٍ
أجنبيةٍ مثل (الكاميرا – الڤيديو – الإسپرِسّو)، حيثُ لا سبيلَ في الترجمات الفصيحة
إلى التعبير عن إضافةِ هذه الكلمات إلى أحد الضمائر إلا بطُرُقٍ تبدو ملتويةً ركيكة.
هكذا تبدو تلك التعبيرات (كاميرتي – كاميراي – الكاميرا التي لي – الكاميرا خاصَّتي).
وما لم يسترسِل في بيانِه أنّ الركاكةَ تبدو مضاعَفَةً - بل يبدو التعبيرُ أقربَ إلى
الاستحالةِ – في الكلمتَين الأُخرَيَين، فكيف أضيفُ الڤيديو والإسپرِسّو مباشَرَةً
إلى ضمير المتكلِّم؟ هل أقولُ ڤيديوهي وإسپرِسُّوهي؟!
والفصيلةُ الثانيةُ هي التعبيراتُ المكوّنة من أكثر من كلمة،
على غِرار إضافة "أُمّ علي" – الحلوى المعروفة في مصر – إلى أُمِّي، أو التفرقة
بين أغنيتَي مارسيل خليفة وسميح شُقير اللتَين تحملان الاسمَ ذاتَه "بيروت نجمتنا"،
فكيف نُضيف "بيروت نجمتنا" إلى مارسيل أو سميح دون أن يبدوَ التعبيرُ ركيكا؟!
ويَلحَقُ بهذَين في المقال نفسِه التركيبُ "آلةُ التصوير" لو استخدمناها
بدلاً من كلمة (الكاميرا)، حيث تَبرُزُ الصعوبةُ حالَ الإضافةِ، وتتضاعفُ الركاكةُ
خاصّةً مع الإضافةِ إلى ضمير: (آلةُ تصويرِ أخي – آلةُ تصويري).
والمهمُّ أنّ الطُّوخيَّ يضعُ في مقابلِ هذا "الخُلُوّ
المُريبِ من أداةِ الملكيّةِ"- كما يُسمِّيهِ- وجودَ أدواتٍ للملكيّة في كُلّ
العامّيّات العربية تقريبًا (بتاع في مصر – تبَع ومتاع في الخليج – دِيال في الشّمال
الإفريقي – مالِ في العراق – إلى آخِره)، فضلاً عن وجودِ مِثل تلك الأدواتِ في قريباتِ
العربيةِ من اللغات الساميّة (ديل في الآرامية والسريانية – شِلْ في العِبرية). ويَخلُصُ
المَقالُ إلى ضرورةِ إيجاد أداةِ ملكيّةٍ في العربية الفُصحى والاتفاق على استخدامِها،
سواءٌ كانت قادمةً من بحر اجتهاد المُتَرجِمين مثل (خاصّة) أو من روافِد العامّيّات
العربيةِ مثل (مالِ) العراقيّة.
وفي تقديري أنّ المَقال رغمَ دورانِه حول المشكلة التي يُثيرُها
إلاّ أنّه يبدو كما لو كان مصمِّمًا على تجاهُل منطِق العربية الفُصحى وممكِنات التعبير
العربيّ لحِساب الانتصار لفكرةٍ مفادُها أنّ العربيةَ لُغةٌ ناقصةٌ قاصِرةٌ عن التعبيرِ
حتى عن أساسيّاتٍ بسيطةٍ كإضافةِ اسمٍ إلى آخرَ أو إلى ضميرٍ في سَلاسة.
الكاميرا خاصَّتي – أينَ كلامُ العرب؟!
"ما قِيسَ على كلامِ العربِ فهُوَ مِن كلامِ العرب"
هكذا صدَّرَ أبو الفتح عثمان بنُ جِنّي أحد فصول كتابِه العُمدة
(الخصائص)، واستشهدَ بقولِ أستاذِه (أبي عليّ الفارسيّ): "إذا قُلتَ (طابَ الخُشكَنانُ)
فهذا من كلام العربِ، لأنك بإعرابِكَ إياه قد أدخلتَه في كلام العرب". وأنا شخصيًّا
لم أكُن أعرفُ الخُشكَنانَ هذا، إلا أنّه بالبحثِ قد تبيّنَ أنه نوعٌ من الخُبز الفارسيّ،
والمهمُّ أنّ اسمَه متّسِقٌ على وزنٍ مُشتَقٍّ من الأوزان العربية، فهو (الفُعلَلانُ).
لقد عكفَت أجيالٌ من اللغويِّين العرب والمُستعرِبين على
قواعد الصِّرف العربيّ، وباتَ واضحًا تمامًا أنّ جذورَ الكلمات في العربية إمّا ثلاثية
أو رباعيّة، وهي تسير في تصريفاتِها واشتقاقاتها على أوزانٍ محددةٍ تُسهِمُ في بناء
المعنى النهائيّ للمفردة. وبينما يَدفع الطوخيُّ بأنّ المشكلةَ ليست في أجنبيّة كلمة
(الكاميرا)، أجِدُني مضطَرًّا للتأكيد على أنّ المشكلةَ هي أجنبيّتُها. وآيةُ ذلك أنّ
اللسانَ الدارجَ في مصرَ -ذلك الذي يلجأ إليه مقالُ الطوخي مُغيثًا مِن غياب أداة الملكية-
حين ينطقُ الكلمةَ ينطقُها هكذا بالضبط "كَمِرَة"، فيَعدِل بها عن البناء
الأعجميِّ إلى وزنٍ عربيٍّ تمامًا هو (فَعِلَة)!
وفي تقديري أنّ هذا التعريبَ الشعبيّ قد يجدُ له مسوّغًا
من المعنى بما يسمح بتكريسِه في الاستخدام الفصيح إذا استكشَفنا الجذر الثلاثيّ (كَ
مَ رَ) في المعاجِم، حيث نجدُ أنّ (كَمَرَهُ) بالغطاء أي غطّاه جيِّدًا حتى لا يظهرَ
منه شيء، وهو ما يتجاوبُ مع مفهومِ الغُرفة المُظلِمة Camera الذي اشتُقّ منه اسمُ الآلة في اللغات الأوربّيّة.
وعلى هذا فإنّ (كَمِرَة) –إذا افترضنا تكريسَها كلمةً فصيحةً- تتجاوبُ بدورِها مع هذا
المفهوم. وليست هذه في النهاية دعوةً لهذا الاستخدام، فسأعودُ لاحِقًا إلى الترجمة
العربية البسيطة التي أحبّذُها لهذه الكلمة.
أمّا my video فلا أعرفُ مشكلةً في أن أقول "مَقطعي المُصَوَّر"
إلا زيادة الحروف في الترجمة العربية
عن التعبير الأجنبي، وهذه مَرَدُّها إلى مَيل الأوربيين إلى
الاختصار، فإن كانت هذه الزيادة شديدة الوطأة على اللسان العربيّ المُحدَث، فيمكننا
أن نبحث عن ترجمةٍ تعبّر عن الصورة المتحركة تتكون من كلمة واحدةٍ ثم نحاول التوافُق
عليها. أيمكن أن تكونَ (مُعَفرَتة) مثَلاً، في عودةٍ إلى التلقّي المصريّ الأوّل للأفلام
باعتبارِها (صُورًا مُعفرَتةً) أو (صُوَر عفاريتي)؟!
وأخيرًا my espresso فهذا لا أجد غضاضةً في تعريبِ أصلِه على (إسبِرِسّ)
بوزن (إفعِلِلّ)، وهذا في حالة ما إذا صعُبَ علينا أن نقول (قهوتي السريعة)! ومِثلُ
هذه التعريباتِ له سوابقُ كثيرةٌ في التراث العربي، لاسيّما في المعرَّب عن الفارسية
كالخُشكَنانِ المذكور آنِفًا، وكالإبرَيسَم (إِفْعَيْلَل) وهو أجودُ الحرير كما في
المعاجِم.
آلة تصويري – منبع الرَّكاكة:
يقول الطوخي "ولا أعتقد بالمناسبة أن العيب في كلمة
«كاميرا»، كونها غير عربية. جربوا، بدلاً منها، «آلة التصوير» وستعانون من نفس الركاكة."
والحَقُّ أنّ الركاكةَ هنا مرَدُّها إلى أنّ الضميرَ المتّصِل
(الياء) قد أُريدَ به إضافةُ الآلة، فجاءَ مُضافًا إليهِ التصويرُ بدلاً من الآلة!
فلنجرّب معًا أن نقول بدلاً من (المِنشار): "آلةُ نَشرِي"، وبدلاً من (المِثقاب):
"آلةُ ثَقبي"، وبدلاً من (الجَرّار): "آلَةُ جَرِّي"! إنها نفس
الركاكة!
ومنبعُ الركاكةِ هنا أنّ السليقةَ العربيةَ ارتاحَت عبرَ
عصورِها إلى التوافُق على أوزانٍ لاسمِ الآلة، فلدينا (المِفعال والمِفعَلَةُ والمِفعَل)،
وأجازَ بعضُ مجامع اللغة استخدامَ أوزانٍ أخرى هي (فَعّالة وفَعّال وفاعِلَة وفاعُول).
هكذا يبدو تعبير (آلة التصوير) أصلاً تعبيرًا عاجزًا عَيِيًّا إلى أبعد مَدى، والمُريبُ
حَقًّا أنّ المَعاجِم العربيةَ تضمُّ في هذا الموضعِ اسم الآلة (صَوَّارَة) لتدُلّ
على تلك الآلة، فلماذا هُجِرَت هكذا؟! ستسلُس إضافتُها إلى ما شئتَ من أسماءَ وضمائرَ،
فهي صَوّارةُ أخي وصوّارَتي.
والمُريبُ أكثرَ من ذلك وجودُ بعض الادّعاءات العربية التي
تزعُمُ أنّ كلمةَ camera التي تعني (غُرفة) في اللاتينية هي ترجمةٌ لكلمة
(قُمرَة) التي استخدمها العالِم العربيُّ الحسنُ بنُ الهيثَم مُشيرًا بها إلى الغرفة
المُظلِمة التي استغلَّها في تجاربِه على الضوء والرؤية. ألَن يَسلُسَ لنا قِيادُ التعبيرِ
إن قُلنا "قمرَتي" و"قُمرَةُ أخي"؟! هنا يبدو اقتراحي الأوّل
(كَمِرة) ساذَجًا جدًّا، لكنّه كان فقط تدريبًا على تحويل الكلمة إلى وزنٍ عربيٍّ وإيجادِ
مسوّغٍ لاستخدامِه وإن كان وزنًا غيرَ قياسيّ.
أمّا (أمُّ عَلِيّ) تحديدًا، فما المشكلة في إضافتِها مباشَرَةً
إلى أيّ كلمة؟ "أمُّ عَلِيِّ أُمِّي أحلى من أُمِّ عَلِيِّك". ليس هذا فقط،
وإنما "أصابِعُ زَينَبِ أُمِّي أحلى من أصابعِ زَينبِي". فإذا ترَكنا الحلوى
إلى أنواع الرُّخام، فإنّ "لَحمَ هوانِمِ هذا القصرِ أزهى من لحمِ هوانمِ ذاكَ
الآخَر". بالطبع يمكن أن تُثير هذه التعبيراتُ بعض الضحِك لالتباس المعنى قليلاً،
إلا أنّه نفس الالتباس الحاصِلِ إذا استخدمنا أيًّا من أدوات المِلكيّة التي يقترحها
مقال الطُّوخي.
أخيرًا، فإنّ تعبيرَ "بيروتُ نجمتُنا أغنيةُ مارسيل
خليفة" لا يبدو مقصِّرًا في أداء المعنى مقارنةً بقولِنا "بيروت نجمتنا بتاعة
مارسيل خليفة". كلُّ ما في الأمر أننا في المثال الثاني نُصِرُّ على أن نحشُر
أداةَ ملكيّةٍ في الجُملة، مُغيِّرِين بِنيَةَ الجُملة العربية.
فما منطِقُ بِنية الجُملة العربية؟
يتحدثُ أستاذنا د. عثمان أمين في كتابه (فلسفة اللغة العربية)
في الفصل المعنوَن (حُضورٌ جُوّانِيّ) عن علاقة الإضافة في الكلام العربيّ، فيقول إنها:
"تَتِمُّ بإنشاءِ علاقةٍ ذهنيةٍ وبالتالي جُوّانِيَّةٍ لا تحتاجُ إلى لفظٍ يُشيرُ
إليها. مثالُ ذلك قولُنا "كُلّيّةُ الآداب" فهو كافٍ لإيقاع الإضافة بين
الكلّيّة والآداب، خلافًا للُّغات الغربية الحديثة..إلخ" وهذه الفقرةُ تتلُو أخرى
تتحدثُ عن حُضور الإنّيّة المفكّرة أو الذات العارفة في كل قضيّةٍ صِيغَت صياغةً عربيةً،
فالفعل لا يستقلّ بالدلالة دون الذاتِ، فلا وجود لفعلٍ مصدريٍّ في العربيةِ، وإنما
هناك دائمًا "أَكتُبُ – تَكتُبُ ....".
هكذا يتحدد منطِق العربية، فما يعتبرُه الطوخيُّ نقصًا مهددًا
لوظيفة التعبير هو عَين امتياز العربية على ما سِواها. إنه ذلك "الحضور الرُّوحِيّ
الداخليّ" للذّات في عناصر الكلام. وبينما يبدأ الطوخي مقالَه بمِثال "يا
رَبَّ العالَمين" ليفصِح عن تحمُّل المُضافِ عبءَ المعنى دون المضافِ إليه، فكأنّ
هناك ثورةً باطنةً في ثنايا المقدمةِ على فكرة نداء الرَّبّ دُون العالَمين، فوظيفة
العالَمين ثانويةٌ كمُضافٍ إليه "ولا يفعل المضاف إليه، وفق هذا التفسير، سوى
توضيح سابقه، إعطائنا خلفية قصيرة عنه لنُلِمَّ بأبعاد الصورة الكبيرة"، يبدو
لي أنّ تنكيرَ المضاف (رَب) لإضافته إلى العالَمِين يَخلُق علاقةً تبادُليَّةً قويّةً
بينَ طرفَي الإضافة، فالربوبيّة معروفةٌ لنا بتحقُّقِها من خلال العالَمين، وظُهورُ
العالَمين مُعرَّفَةً وتنكيرُ (رَبٍّ) فيهما انعكاسٌ لخَفاءِ الربّ ولُطفِه وظُهور
خَلقِه، فالربوبية مضافةٌ بالضرورة، والألوهيّة معرّفةٌ مكتفيةٌ بذاتها "الحمدُ
للهِ رَبِّ العالَمِينَ". ولعلَّ مصداقَ هذا مجيءً كلمةِ (رَبٍّ) في القرآنِ نكرةً
في ذاتِها دائمًا، إمّا معرّفةً بالإضافة كما في "رَبِّ موسى وهارون" وإمّا
نكرةً تمامًا كما في "بلدةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ."
أخيرًا، يقتبس (عثمان أمين) قولَ (ابن خلدون): "والملَكات
الحاصلة للعرب من ذلك أحسنُ الملَكات وأوضحُها إبانةً عن المقاصِد، لدلالة غير الكلمات
فيها على كثيرٍ من المعاني"، ثم يفصّل ذلك بالحركات والحُروف وما إلى ذلك. وآيةُ
ذلك في مقالِنا ما أسلَفناهُ عن أُمّ عليّ "أُمُّ عِليِّ أُمّي أحلى من أُمِّ
عَلِيِّك". ولا تبقى بعد ذلك حاجةٌ إلى (بتاع) أو (بتاعة)!
اللغة العربية نسَقٌ متكاملٌ متًصِلُ الأجزاءِ متلاحِمُها،
وحيثُما أردنا أن نقحِمَ عليه ما ليس منه بدا لنا نُبُوّ المُقحَمِ بمكانِه. ألواننا
الأصليّة كلّها (أفعلُ – فَعلاءُ)، وليس الأمر كذلك في الإنكليزية (white
– blue – green…etc.) حيث لا رابِطَ من وزنٍ بين لونٍ وآخَر، وقِس على ذلك في أيّ حقلٍ
من مفردات اللغة. ولا يظهر العِيُّ والركاكةُ نتيجةَ قُصور العربية عن الأداء، فهذه
هي النظرة العَجلَى التي لم تنفذ إلى ما وراء الظاهر قِيدَ شِبرٍ، وإنما يظهرَان حيثُما
تبرّأ أبناءُ العربيةِ من منطقِها وآثَرُوا فوضى لغات الأعاجِم على اتّساقِ لغةِ العرَب،
أو حيثُما ركَنُوا إلى حلول الترجمةِ السريعة العاجزة مثل (آلة التصوير).
ختامًا، يبدو الحَلُّ في الاهتمام بتعليم العربية ومنطقِها،
وفي مراجعة التّرجمات بحيثُ لا تُرَسِّخُ العِيّ والركاكةَ أكثرَ مِن رسوخِهما الحاليّ،
وفي تقوية الإرادة الجَمعيّة لأبناء العربية، لنقولَ جميعًا "إنها صَوّارَتي"
بدلاً من أن نقول "إنها الكاميرا التي لي/ كاميراي" أو "آلةُ التصويرِ
خاصَّتي".