54 عاما بالتمام والكمال مضت على احتلال الكيان الصهيوني للضفة الغربية في مهزلة عسكرية بادر إليها الكيان في الخامس من حزيران/يونيو 1967. حرب أطلقت عليها إسرائيل حرب الأيام الستة، وهي لم تتجاوز في بعض المناطق بضع ساعات، على الأقل على الجبهة الأردنية، وتحديدا في مناطق شمال الضفة.
لا أقول ذلك ترديدا لما يقوله البعض، بل أقوله كشاهد عيان على تلك الحرب، وأنا ابن قرية شويكة المتاخمة للخط الأخضر ومنطقة المثلث، ولا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن البحر المتوسط. شاهد عاش الحرب/المهزلة لحظة بلحظة. أذكر جيدا وأنا ابن الـ16 عاما، وكنت أستعد وأترابي لقضاء الصيف مع بقية أفراد العائلة المغتربين العائدين من دول الخليج، ربما على ضفاف بحر يافا وحيفا بعد التحرير، لكن لم يكن هذا الشاب المراهق يعلم أن الرياح كانت تجري بما لا تشتهي سفنه. لم أكن أعلم أن جيش الاحتلال هو الذي سيسبق الجيوش العربية إلى قريتي ويحتلها، ويحتل مزيدا من الأرض، بل كل الأرض الفلسطينية، تضاف إليها هضبة الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية.
التغيير مطلوب الآن.. ليس في الوجوه فحسب، بل في السياسات والخطابات الإعلامية والعلاقات.
لم أكن أصدق أن جيش الكيان كان وسط قريتي ظهر اليوم التالي لانطلاق الحرب، لغياب أي وجود عسكري أردني، أو غير أردني باستثناء جنود لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، فروا من أول طلعة لطائرات العدو، وإطلاقها زخات من رشاشاتها على منطقة في البلدة تعرف بمنطقة الراس، لعلوها وكشفها كل الساحل الفلسطيني القريب في الساعات الأولى للحرب: ولا ألومهم فالكف لا تقاوم المخرز.
كان ذاك اليوم هو يوم الاثنين، وكان عم والدتي رحمهما الله، أحد حراس القرية، أو هكذا اعتبر نفسه لأنه واحد من القلائل جدا في القرية الذين يمتلكون السلاح، أو هكذا كان يتهيأ له، بندقية إنكليزية قديمة يشبه فيها مقاتلي جيش الإنقاذ عام 1948، وكان واحدا منهم. كان يظن أنه بهذه البندقية وبضع رصاصات سيصد عن قريته أي محاولات تسلل من قبل العدو، في انتظار وصول الجيوش العربية، لاسيما الجيش العراقي، الذي كان الناس يعولون عليه كثيرا، الجيوش التي ستحرر الأرض وتدق أبواب تل أبيب في غضون ساعات.. لكنها لم تصل. ما لم يكن يعلمه عم والدتي أنه بعد أقل من24 ساعة كان سينضم إلى بقية أقاربه الذين وجدوا مأوى لهم في مغارة في أحد التلال المحيطة بالقرية، التي أصبحت بعد الاحتلال تعرف بضاحية شويكة في مدينة طولكرم، بعدما تشابكت الأحياء بينهما، وقضي على بيارات أو بساتين الحمضيات، التي كانت تفصل بينهما، وتشتهر بها المنطقة، في موجة تصحير مستمرة حتى الآن. وسقطت الضفة ليتساوى فلسطينيوها مع فلسطينيي الداخل بالاحتلال.
ليس القصد من هذه المقدمة الطويلة الحديث عن حرب1967 وذكراها الأليمة، ونبش الماضي، وإن كان ضروريا. المقصود منها مجرد التذكير بالهزيمة النكراء، والترحم على أيام زمان، في ظل الحاضر الأتعس! المقصود هو الحديث عن الثورة التي كانت قد انطلقت قبل عامين ونصف العام من الهزيمة، والتطورات والمنعطفات التي مرّت بها بعد الهزيمة، التي منيت بها جيوش ثلاث دول عربية، وهي للتذكير فقط مصر وسوريا والأردن، يضاف إليها طبعا الجيش العراقي الذي لم يُعطَ الفرصة حتى للتموضع، واستقبلته طائرات الاحتلال، وهو يحاول الدخول ودمّرت دباباته التي شاهدناها بأم أعيننا بعد أيام من انتهاء الحرب، على قارعة الطريق.
المقصود هو الثورة ذاتها، التي لم يبق منها حتى الاسم، وما آلت إليه هذه الثورة التي انطلقت بالأساس تحت شعار تحرير الجزء المحتل من فلسطين عام 1948 بالكفاح المسلح، والتخلص من الكيان الصهيوني الاستعماري، وإقامة الدولة الديمقراطية على أرض فلسطين من النهر إلى البحر، يعيش فيها المسلمون والمسيحيون، ومن أراد من اليهود البقاء، بأمن وأمان وسلام. ثبتت الثورة ممثلة بحركة فتح في حينها، التي كانت الأمل وسط أجواء الهزيمة العربية، أقدامها في معركة الكرامة في 21 آذار/مارس 1968 التي حققت فيها انتصارا على جيش الاحتلال، الذي تحرك للقضاء عليها في أول مواجهة من نوعها، لينهال عليها المتطوعون من بعد، من كل حدب وصوب، واضطرت المقاومة ممثلة بمنظمة التحرير بكل مكوناتها لمغادرة الأردن بعد معارك دموية لن ندخل في تفاصيلها، ولا من تسبب بها، إلى لبنان. وفي عام1974 شهد البرنامج السياسي للمنظمة أول تغيير وتراجع عن البرنامج الأصلي، بإقرار المجلس الوطني برنامج النقاط العشر، التي تدعو إلى إنشاء سلطة وطنية على أي «قطعة محررة».
وكانت النقاط العشر الحلقة الأولى من مسلسل التراجعات على مدى السنوات اللاحقة. والحلقة الثانية في مسلسل إعلان الدولة الفلسطينية في المؤتمر الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988، بمعنى التخلي عن شعار الدولة الديمقراطية الواحدة. وخرجت المنظمة من لبنان، ومرة أخرى لن نتحدث عن الحرب الأهلية الدامية التي شهدها لبنان، فليس هناك متسع من المساحة، خرجت بعد حرب عام 1982 التي وصلت فيها قوات الاحتلال إلى بيروت وحاصرتها برا وبحرا وجوا. وقررت المنظمة الرحيل باتفاق رعته الولايات المتحدة، ويسمح لها بالانسحاب ومقاتليها بكرامة. وتوزع الفدائيون ما بين اليمن والعراق، بينما استقر المطاف بالقيادة في تونس. وبقيت هناك إلى أن عادت بموجب اتفاق أوسلو، الذي وقعته في البيت الأبيض برعاية دولية في أيلول/سبتمبر 1993، وسلمت فيه بالورقة الضاغطة الوحيدة المتبقية لديها، وهي ورقة الاعتراف بالكيان الصهيوني على 78% من فلسطين التاريخية، بدون اعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. واكتفت القيادة في المقابل بالاعتراف بالمنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. وحتى موضوع غزة وأريحا جاء تسليمهما للمنظمة لاحقا في بروتوكولات عملت على تقسيم الضفة إلى 3 مناطق؛ منطقة «أ» وتنتقل إدارتها وأمنها للسلطة الفلسطينية، وتشمل المدن الرئيسية وتمثل تقريبا 22% من أراضي الضفة، التي تعادل فقط 22% من فلسطين التاريخية. ومنطقة «ب» وتنتقل إدارتها للسلطة، وأمنها في يد جيش الاحتلال ومساحتها نحو 18%. ومنطقة «ج» وتمثل نحو 60% من أراضي الضفة، وكان يفترض أن يجري نقل منطقة ب إلى تصنيف أ و ج لتصنيف ب، وهكذا إلى أن تسلم الضفة لمنظمة التحرير مع نهاية إعلان المبادئ في عام1999 وإعلان الدولة الفلسطينية، لكن ذلك لم يتحقق. ولم تُعلن الدولة، وأصبح المؤقت دائما بتراجع دولة الاحتلال عن كل التزاماتها بشأن أوسلو، بدون اكتراث دولي ولم يعد يتمسك بها سوى الجانب الفلسطيني طبعا، ليس حبا بأوسلو، بل ضعفا ليس في الشعب الفلسطيني الذي لا يزال صامدا متمسكا بحقوقه، رغم مرور عشرات العقود، بل في قيادته التي لم تتغير وجوهها باستثناء من قضى نحبه، أو من اعتقل، لكونه الطرف المستضعف. ولولا انتفاضات شعبنا لأصبحت منظمة التحرير ومن ينضوي تحت رايتها من فصائل، في خبر كان.
القيادة الفلسطينية لم تتغير، وهذا بالطبع ينسحب على كل الفصائل القديم منها والجديد. والأسوأ من ذلك أنه لم يخرج قائد أو فصيل من هذه الفصائل ليتحمل مسؤولية الإخفاقات في مسيرة الثورة التي أوصلتنا قيادتها إلى ما نحن فيه من مأزق، غير قادرين على الخروج منه لا إلى الأمام ولا إلى الوراء. ولم يحصل أن قيم أي تنظيم تجربته الفاشلة الممتدة إلى عقود. تقلصت الطموحات اليوم إلى دويلة فلسطينية منزوعة السلاح، إن أمكن على أقل من 22% من مساحة فلسطين التاريخية، والحفاظ على الأقصى والقدس الشرقية، أو ما يتبقى منها مع تحقيق «السلام المنشود». وكما يقول المثل «قبلنا بالبين والبين ما قبل بنا».
التغيير في أن تكونوا صادقين ولو لمرة واحدة مع أنفسكم وشعبكم. مللنا الوجوه التي تطل علينا يوميا بالإدانات والخطابات السياسية والإعلامية نفسها، ومللنا انتظار خروج المواقف المؤيدة من خانة الأقوال إلى خانة الأفعال، ومللنا الدعوات للمقاومة الشعبية السلمية التي لم تخرج إلى حيز الوجود بالزخم المطلوب، ومللنا الالتزام من جانب واحد بما لا يلتزم به الطرف الآخر، ومللنا ضعفنا الرسمي والانتظار؛ فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. طفح الكيل.
(القدس العربي)