أثبت الحراك القوي للشارع المقدسي والفلسطيني تحديداً، والعربي - عبر منصات التواصل الاجتماعي - عموما، بطلان النظرية القائلة بانحسار عصر الجماهير في وقتنا الحالي كقوّة مبهمة قابلة للتدفق بشكل عفوي غير منضبط أو موجه.
لا أبالغ إن قلت إن الجماهير في هبّة باب العامود وما تلاها من اقتحام للأقصى وعدوان على غزة وأهلها في الداخل الفلسطيني هي التي قادت الفصائل على الأرض، فضلا عن الشخصيات المؤثرة عبر منصات التواصل الاجتماعي! وقد شكّل الجمهور العربي والمقدسي الفلسطيني عنصرا ضاغطا لاتخاذ مواقف تتماهى مع حالة تدفقه وطبيعة عزيمته.
نذكر أن مجموعة من الشباب المقدسيين كانوا درعا واقيا في الدفاع عن باب العامود في القدس حيث الساحة التي بها يتسامرون في ليالي رمضان بينما كان العقلاء والحكماء في صلاة التراويح داخل المسجد الأقصى، وهم الذين رفعوا السقف عاليا بانتقاد السلطة الفلسطينية والمطالبة بموقف عملي للمقاومة.
بل إن كثيرا من الشخصيات المؤثرة في منصات التواصل الاجتماعي تحركت بعد ضغط جماهيري عليها. وقد كانت الجماهير صارمة لدرجة اتخاذ عقوبات بحق المترددين وغير المستجيبين، وما نموذج زين كرزون (مؤثرة اجتماعية في الأردن)، عنّا ببعيد حيث تسببت تصريحاتها غير الموفقة بعدم مسايرة حالة التفاعل الدائم مع ما يجري في فلسطين؛ بفقدانها نحو 200 ألف شخص من متابعيها في يوم واحد تقريبا وإلغاء معظم شركات الدعاية والإعلان عقودا إعلانية لها معها. وعلى ذلك فقس.
بطبيعة الحال هذا لا ينتقص من قيمة فصائل المقاومة التي استجابت وكانت على قدر ثقة الجماهير بها، وبمواعيد واضحة ودقيقة جدا، ولا من مقدار عطاء الشخصيات المؤثرة التي أثبتت أنها عند حسن ظن متابعيها، ولكن هذا فرض معادلة جديدة على الأرض خلافا للنظرية السائدة بأن الحزب الناجح هو الذي يقود الشارع وليس العكس.
السؤال هنا: هل من مصلحة القوى والأحزاب والفصائل أن يقودها الشارع؟
بداية نجيب بلا، ولكن هي رسالة مع الحب من الجمهور الذي وثق بهؤلاء الناس أفرادا كانوا أو جماعات؛ أن هذا هو الطريق الذي رسمتموه لنا وهو المسار الذي نأمل أن تستمر قيادتكم لنا من خلاله، وحتى وإن بدا لنا أنكم قصرتم به، نعود ونضغط عليكم ونطلب منكم الثبات والعودة للموقع الذي لا يمكن أن يشغله غيركم.
وللتأكيد على عفوية الحراك الجماهيري وتلقائيته خصوصا في البدايات، أذكر ما قاله الأسير حاليا إسلام أبو عون، بوصفه لفعل بعض الشباب في مواجهة جنود الاحتلال أو ما يسمى حرس الحدود، داخل البلدة القديمة في القدس، حين قال: "كان أكثر همّ بعض الشباب في البداية أن يصور مقطعا عبر منصة "تيك توك" وهو يضرب جنديا من جنود الاحتلال بطريقة درامية مسجلا عددا أكبر من المشاهدات!"، عبر تلك المنصة الشهيرة، التي حسب إعلانها شبه الرسمي حضر نحو 55 في المئة من سكان العالم مقاطع فيديو تحت وسم "فلسطين حرة" (Free Palestine) فيها.
وعليه لم تكن القصة أكبر من ذلك في البداية، ولكن تراكم الأحداث على الأرض أعاد البوصلة لاتجاهها الصحيح.
أذكر هنا قولا للمفكر الغربي أليكس والكر: "الطريقة الشائعة لتخلي الناس عن قوتهم، هي اعتقادهم أنهم لا يملكون أي قوة". والآن لم يعد هذا ممكنا، فالجماهير سواء على الأرض في القدس وفلسطين أو خلف شاشات الهواتف عبر العالم العربي؛ باتت توقن بأنها تملك القوة الكافية لتواجه وتقود، وبات واضحا أن الفصيل المقاوم أو الحزب الناجح هو الذي يتماهى مع آمال الجماهير وتطلعاتها.
سيسجل التاريخ بمداد من الذهب اسم كل من كان عند حسن الظن وأهلا للثقة، وسيلعن في المقابل كل من ارتضوا لأنفسهم خلاف ذلك.
ما بعد انتفاضة الأقصى لن يكون كما قبلها
انتفاضة تعيد الأمور إلى نصابها