قضايا وآراء

فلسطين من دون تواريخ ولا ألوان

1300x600
عما أريد أن أكتب لكم هنا- الآن، إذا؟ أعن فلسطين؛ كفكرة مجردة خارج الجغرافيا والتاريخ، خارج الوقائع والواقع، وحتى الأحلام. أغافل أنا، بحكم ظروف لا دخل لإرادتي بها، إلى هذا الحد؟

نعم معزول أنا عن متابعة ما يجري، لكني في معتزلي الإجباري، تكفيني جملتين لأفكر معكم، يكفيني التيقن من أن ذراع المقاومة الفلسطينية تصل إلى كل شبر في فلسطين، وأنه في هذا الـ"كل شبر" هناك مقاومة.

يكفيني هذا، ويكفيني أن أستعيد منهج ميشيل فوكو في تفكيك مفهوم القوة، ومقولته "لا توجد علاقات للسلطة دون مقاومة"، لأقول: إن فلسطين تغادر في هذه اللحظة كل التواريخ التي كبلتها، وكل الألوان التي حاصرتها.

لكنى قد أحتاج أن أستعيد جملة إدوارد سعيد، في كتابه "الثقافة والإمبريالية": "إن أيّا منا ليس خارج الجغرافيا ولا وراءها، فما من أحد منا في منأى عن الصراع حول الجغرافيا. والصراع معقد وشيّق لأنه ليس صراعاً حول العسكر والمدافع وحسب، بل هو أيضاً صراع حول الأفكار، والأشكال، والصور، والمتصورات"، لأقول: فلسطين الآن كلٌّ واحد، مكتمل. المقاومة الآن في اللد وحيفا ويافا والرملة، وليس فقط في باب العامود أو حي الشيخ جرّاح أو غزة أو الضفة. ليس هناك الآن: عرب 48، أو فلسطينيو الداخل، أو عرب إسرائيل، ليس هناك خط أخضر، ليس هناك تواريخ أو ألوان تحجب الرؤية والمدى. البصر اليوم حديد، هناك مشروع استعماري استيطاني عنصري وهناك مقاومة على طول المدى.

هل أفرط في الأماني؟ ربما، ربما لأني لا أستند إلا لجملتين، لكنهما كافيتان لأفكر معكم في معانيهما، ففي هذه اللحظات تسقط الكثير من الأساطير، وأتذكر الآن ما قرأته للكاتب والناقد الفلسطيني حسن خضر؛ قبل نحو عشر سنوات، في تقديم ترجمته لكتاب "في مصيدة الخط الأخضر" للكاتب الإسرائيلي "يهودا شنهاف، من "إن تعبير أسطورة مناسب جدا لهذا الغرض. فالأسطورة، في التعريف العام، ليست حدثا خرافيا من نبت الخيال، بل ذاكرة مشوشة عن حدث غامض وقع في زمن بعيد".

تعبير الخط الأخضر يلخص ما أريد الذهاب إليه من أن اللحظة الراهنة فذة وفريدة، وتنفتح على أفق لا حدود له. فالخط الأخضر، هو خط الهدنة الذي رسمته اتفاقيات الهدنة ووقف إطلاق النار التي تم التوقيع عليها بين الكيان الصهيوني "إسرائيل" وكل من: مصر والأردن ولبنان وسوريا، عام 1949، كنتيجة لحرب 1948. جاءت كلمة "الأخضر" من لون الخط الذي رسمت به الخرائط التفصيلية المرفقة بنصوص تلك الاتفاقيات.

وأتذكر جيدا تلك الفقرة من اتفاقية الهدنة المصرية الإسرائيلية؛ الموقعة في رودوس، والتي تنص على أنه "لا يجوز أن يفسر خط الهدنة بأي معنى من المعاني بأنه حد سياسي أو إقليمي، وقد جرى تحديده دون أي مساس بحقوق أي من فريقي الهدنة أو مطالبه أو مواقفه في ما يتعلق بالتسوية النهائية لقضية فلسطين".

الخط الأخضر، إذا، مجرد تفصيلة "حربية"، إنه "خط فصل قوات عسكرية في أعقاب حرب بين الطرفين"، وقد ظل من الناحية الرسمية لا يشكل حدودا بين إسرائيل والدول العربية المحيطة، ولا يحمل أي معنى اعتراف بالكيان المغتصب، أو أي معنى قانوني، لكن تعبير الخط الأخضر تم تسويقه سياسيا، والأخطر أنه تم وصم الفلسطينيين به من نوعية: العرب داخل الخط الأخضر، أو الفلسطينيون داخل الخط الأخضر.

يخبرنا الكاتب الإسرائيلي الذي يصفه خضر بأنه "من رواد نظرية علم الاجتماع النقدية في إسرائيل"، أن "أسطورة الخط الأخضر ليست نتاج ذاكرة مشوشة، بل صياغة أيديولوجية تعوزها البراءة لواقع يراد لها أن تسهم في طمس ملامحه".

وفحوى هذه الأسطورة أن "المجتمع والدولة في إسرائيل ما قبل العام 1967 كانا مثاليين، وما طرأ عليهما بعده من تحولات راديكالية في اتجاه اليمين، إنما نجمت عن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وصعود حركة الاستيطان. وغالباً ما ينتقد مؤيدو هذه الأسطورة الاحتلال والاستيطان تعبيرا عن نوستالجيا إلى زمن مضى".

ويرى الكاتب أن هذه الأسطورة تسهم بدورها في إعاقة التقدم في مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، التي أصبحت تغطي عقدين من الزمن، دون نتائج حقيقية على الأرض. ومنشأ الخلل، كما يرى الكاتب، أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ينطلقان من فكرتين على طرف نقيض؛ فالفلسطيني يفاوض بالعودة إلى ما وقع في العام 1948، أي النكبة وما رافق إعلان قيام الدولة الإسرائيلية نفسها من ملابسات، وما نجم عنها من آثار كارثية، بينما يفاوض الإسرائيلي استنادا إلى ما وقع في العام 1967، أي احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وما رافقه من استيطان في أراض، و"نـزاع" على الملكية.

اليوم يُسقط الفلسطيني كل هذا، يسقط كل الخطوط وكل الألوان وكل التواريخ. بكل ثقة أنظر إلى ما يحدث بأمل كبير، فالفلسطيني، اليوم، يعري في كل شبر من أرضه،جوهر الكيان الاستعماري، دولة ومجتمعاً، والقائم على سياسة التهجير والتدمير من جهة، والبناء والتهويد من جهة أخرى. اليوم يعري الفلسطيني حصانة "تل أبيب" كـ"أول مدينة يهودية صافية" أقيمت في العصر الحديث.

اليوم فلسطين تنفتح على أفق جديد، من دون تواريخ، فلا تمايز بين 48 و67، ولا ألوان خضراء أو حمراء.. اليوم يسدد الفلسطيني نيرانه وحجارته، كما كلمته، نحو النكبة والنكسة، ونحو اتفاققيات وأوهام لا حصر لها، ليس أقلها بؤسا أوسلو و"سلام الشجعان"، وتطبيع الأنظمة الخانعة، وهوان السلطة الفككة.

اليوم هناك مشروعان يصطرعان: مشروع استعماري عنصري استيطاني ومشروع تحرري إنساني، وهو صراع؛ كما نبهنا صاحب "الثقافة والإمبريالية"، صراع حول العسكر والمدافع، وهو أيضاً صراع حول الأفكار، والأشكال، والصور، والمتصورات. وقد حاولت أن أشارككم، هنا، نصيبي فيه على الرغم من عزلتي الإجبارية، وأنا غير واهم أراها بداية أفق جديد.