(١)
استوقفتني ست إشارات مهمة في إفطار شباب
الإسلاميين (الرابع من رمضان، ١٦نيسان/ أبريل ٢٠٢١م)، ولكل إشارة أكثر من دلالة،
ففي ظل الواقع السياسي المعقد في
السودان من المهم تفتيت الأحداث للوصول لجوهر
القضية..
وأول الإشارات أن التيار الإسلامي، وبعد عامين
من ابتعاده عن منصة الحكم ولأول مرة، امتلك زمام المبادرة، ولم تعد مواقفه تابعة
لمواقف السلطة الحاكمة، أو ردة فعل على قراراتها. وهذه خطوة مهمة، في اتجاه
التصالح المجتمعي. لقد ظلت الحكومة بمؤسساتها كافة حتى شباط/ فبراير الماضي تبادر
باتخاذ تدابير سابقة ومصادرات واعتقالات ونحو ذلك، أما هذه المرة فإن من حدد الحدث
وصنع الحدث هو التيار الإسلامي.
لكن صحيح أيضا أن هذه المبادرة من حيث وقوعها
لا تعتبر الأولى، فقد شهدنا مواكب ودعوات برامج "كلنا عطاء"، أما هذا
الإفطار وحضوره فهو الحدث الأكثر وقعا. وتبدى ذلك في ثلاثة شواهد، منها التفاعل
الإعلامي الواسع، ومنها الرمزية الشبابية والجيل الجديد، ومنها التجاسر فوق كل
قيود المحاصرة والتقييد والحملات الإعلامية..
وأما الإشارة الثانية، فهي اتساع الصف أو وحدة
الصف الإسلامي. لقد كان عام ١٩٩٩م (الرابع من رمضان) عام المفاصلة والانقسام، وتلت
ذلك انقسامات أخرى وأحزاب وجماعة الرصيف (أي الأغلبية الصامتة). ومع أن الحدث
عفوي، فقد أضفى على الزمان رمزية جديدة تتجاوز تلك التسميات والانقسام، وتدعو
لمزيد من التقارب والتوحد. وفي مقابل ذلك، فإن الحاضنة السياسية اليوم أكثر تشتتا
وانقساما، كما أن سياساتها وقراراتها قاربت بين التيارات الإسلامية بمختلف
توجهاتها وأطيافها، والأمر الأهم أن من يقود ذلك جيل جديد لم ينغمس في نزاعات
وخلافات السابقين..
والإشارة الثالثة، وخلافا للمظهر العام للحدث،
فإن الخطابات والكلمات تضمنت إشارات مهمة للثابت والمتغير في خيارات الإسلاميين،
مما يشير لتوسع نقاشات المراجعة والتدبر، وتأسيس المنطلقات للمرحلة وفق مقتضيات.
وهذه نقطة غابت عن الكثيرين في تعاطيهم من الحدث، والتيار الإسلامي لديه آلياته
وتجاربه في التقييم والتدارس والشورى..
هذه هي الصفحة الأولى من الحدث، أي جانب
"شباب الإسلاميين"..
(٢)
وفي الجانب الآخر من المشهد (أي الحكومة
والحاضنة السياسية)، ثمة ثلاث إشارات مهمة:
الأولى: حالة الانزعاج المبالغ فيها من الحدث،
ومنهج التعامل الذي يفتقر للاتساق مع الشعارات الأساسية للحراك؛ وأولها: الحرية،
وثانيها: العدالة، والإفراط في استخدام الانفعال والذي عبر عنه بيان لجنة إزالة
التمكين، وهي تختم بيانها بأن عودة الإسلاميين "عشم إبليس في الجنة"،
وأعضاء اللجنة وهم أعضاء في قوي سياسية يدركون أن العودة أو الكمون خيار الشعب من
خلال انتخابات قادمة طال الأمد أو قصر. كما أن إجراءات الاعتقال والعنف اللفظي
تخلق حالة من الاستقطاب السياسي والاحتقان، في وقت تحتاج البلاد لوحدة الصف الوطني
وقبول الآخر.. خاصة أن بلادنا تشهد تحديات كبيرة ذات طبيعة أمنية ومجتمعية تتطلب
حشد الطاقات ووحدة الكلمة.
والإشارة الثانية في هذه الصفحة: ضعف الحس
السياسي وقراءة الشواهد والدلالات، فهذه الحكومة لم تقدم للمواطن أي نافذة أمل
وتداعت تطلعات الشباب وتراجعت أحلامهم. وبمراجعة خاطفة للتعليقات على بيانات
وقرارات الحكومة ومؤسساتها نكتشف أن زخم الشارع قد خمد، وأن الحسرة علت الوجوه،
أضف لذلك الصراعات الحزبية والمحاصصات وغياب الحكومة في مجال الخدمات والأمن. وكل
ذلك أدى لانحسار المد الشعبي، وهذه حقيقة لم تدركها الحكومة وحاضنتها السياسية،
كما أن الحكومة أوغلت ودون توجس في التعامل مع قيم مجتمعية وثوابت بالإلغاء أو
الإبدال مع غياب الحوار الشفاف والتوعية، وهذا فوق أنه دفع التيارات الإسلامية
للتوحد، فإنه خلق حالة من الشك الشعبي توسع كل يوم..
وثالث الإشارات هنا: ضعف حيلة التعامل مع
الحدث، ولم يعد من أدوات سوى محاولة التخويف والتهديد، وهذه وسيلة غير فاعلة
لأسباب كثيرة؛ منها أن التهديدات لا تخيف أي قوى سياسية ذات فكرة وعزم، وقد اختبروا
مشاهد أكثر قوة ومضوا دون تردد، ومنها أن هذا جيل جديد ليس لديه ما يخسره في سبيل
التعبير عن قناعاته..
ولكن المثير للدهشة هو إشارات متكررة لإضفاء
صفة الإرهاب بين حين وآخر.. وهذا منطق لا يمكن ادعاؤه لجماعة التقوا في ميدان عام
في أمسية رمضانية، وتبادلوا الكلمات والإنشاد وتفرقوا..
(٣)
ويبقي أن أشير هنا لأبعاد أخرى للحدث ونحصرها
في نقطتين:
الأولى: الزج بالخلاف بين المكون العسكري
والمدني في المشهد من خلال الإشارة لضباط من الجيش (رائد من السلاح الطبي) وضباط
من جهاز الأمن، مع أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة
الانتقالي، قد تحدث قبل يومين عن الانسجام بين أطراف الحكم، وسبقه بذات المعنى
حديث رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك.. بينما وردت اتهامات من بعض الرموز السياسية
للأجهزة الأمنية لسماحها بقيام الحدث، مع العلم أن أمر المناشط تتولاه الشرطة وهذه
تتبع للسيد رئيس الوزراء، وبالتالي فإن هذا يؤكد أن هناك أجندة ومنازعات ذات طابع
حزبي..
والنقطة الثانية أن القوى السياسية في الحاضنة
لديها هدف للقضاء على الإسلاميين ومحو دورهم السياسي دون تقديم بدائل جديدة، مع
النصح بالدعوة للتقييم والمراجعة، وهي دعوة لم توجه لحزب البعث وهو ما زال بذات
أفكار ميشيل عفلق، ولا للحزب الشيوعي وهو يرزح في قيود الماركسية اللينينية، ولا
للحزب الناصري أو حتى للقادمين الجدد من حملة السلاح لطرح أفكارهم ومشروعاتهم بدلا
عن مظاهر التسلح، وهذا مأزق كبير نتائجه في صناديق الاقتراع..