يعاني
العراق جملة من المشاكل السياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وتبقى جريمة تغييب المواطنين من أشدّ وأقسى تلك الجرائم لأنّها تتعلق بمواطنين أبرياء لا يُعرف مصيرهم، وهل هم في عداد الأحياء، أم في عداد الأموات؟
هذا الملفّ الشائك تحاول غالبيّة القوى السياسيّة التغليس عليه لأنّه سيفتح الباب واسعاً لإشكاليّات لها أوّل وربّما ليس لها آخر؛ لأنّ المتّهم الأكبر في هذه الكارثة المجتمعيّة هم بعض الشركاء السياسيّين!
وقبل خمسة أيّام شارك رئيس لجنة العلاقات الخارجيّة في البرلمان العراقيّ النائب ظافر العاني بأعمال البرلمان العربيّ في القاهرة، وتحدّث عن واقع العراق بجرأة متميّزة وضروريّة لعلاج الخراب المتنامي في البلاد.
وبيّن العاني أنّ المنظّمات الحقوقيّة تتجاهل، أو تقلّل من قيمة الاعتداءات على
حقوق الإنسان العراقيّ، وأنّ تلك الحقوق تتعرض لانتهاكات خطيرة من قبل المليشيات التي تركب على ظهر الدولة العراقيّة، وأنّ هناك أكثر من 10 آلاف مغيّب لا يُعرف مصيرهم. وتجري عمليّات اختطاف ممنهج، وترويع وقتل للشباب من قادة التظاهرات، ولا يعرف أحد لليوم هويّة قاتليهم، وأنّ المليشيات تمنع عودة 100 ألف عراقيّ من مدينة جرف الصخر لمنازلهم، ومثلها مدن أخرى بالعراق في مسعى لإحداث تغيير ديمغرافيّ"!
بيان العاني لبعض الصور السلبيّة في العراق داخل البرلمان العربيّ خطوة مهمّة لإطلاع الدول العربيّة على الواقع الإنسانيّ الخطير في بلاد تعاني من خراب مركّب، وكذلك ضرورة سياسية لمَنْ يريد أن يحسم هذا الملفّ الخطير!
العجيب أنّه وبعد عودة العاني إلى بغداد واجه هجوماً شرساً من بعض النوّاب، وفي مقدّمتهم النائب الأوّل لرئيس البرلمان حسن الكعبي الذي نفى نفياً قاطعاً وجود أيّ ملفّ للمغيّبين في العراق!
وطالب الكعبي مجلس النوّاب بالتصويت على إقالة العاني "في أوّل جلسة للمجلس وفقاً لقانون الاستبدال رقم ٦ لسنة ٢٠٠٦ لمخالفته الصريحة لشروط العضويّة، وعدم احترام اليمين الدستوريّ، وإثارته للنعرات الطائفيّة"!
ولا ندري كيف يمكن تهديد مَنْ يُمثّل الناس حينما ينقل معاناتهم، ومعلوم أنّ من أهمّ واجبات البرلمان هو الدفاع عن المواطنين وليس تجاهل قضاياهم، وبالذات تلك القضايا المصيريّة المتعلّقة بحياة الناس وحرّيّاتهم وأرزاقهم؟
وبالمقابل، ردّ تحالف القوى بزعامة محمد الحلبوسي، الاثنين الماضي على تصريحات الكعبي ضدّ العاني، وأكّد أنّ "القول بعدم وجود مغيّبين، أو مخطوفين أمر لا تدعمه الحقائق. فهنالك الآلاف من الذين تمّ اختطافهم في الصقلاوية وبزيبز وجرف الصخر ونينوى، والجهات التي خطفتهم معروفة للحكومة وللجميع. ولطالما سمّينا الأشياء بمسمّياتها على مدى الفترة الماضية، وقد استمرّت تلك الجهات، ومن يغطّي عليها، في الدفاع عنها وتبرير جرائمها، وأنّ وجود مغيّبين أمر أثبتته الوقائع، وآخرها موازنة العام 2021 التي نصّت على تعويض عوائل المغيّبين ومعاملتهم كشهداء"!
فكيف وافق الكعبي وكتلته الأكبر في البرلمان على تمرير موازنة العراق لفئة غير موجودة ضمن شرائح المجتمع العراقيّ؟
ثمّ لا ندري لمصلحة مَنْ ينفي الكعبي هذا الملفّ الخطير والحساس، لدرجة أنّ عوائل المئات من المغيّبين فضّلوا الصمت وعدم التبليغ عن غياب أولادهم بسبب الخوف من القوى الشرّيرة الفاعلة في العراق والتي ستتّهمهم بالإرهاب؟
إنّ جرائم التغييب من الجرائم المركّبة التي لا تسقط بالتقادم، ولا تقف حدودها عند الضحايا بل تتعدّى آثارها إلى عوائلهم التي لا تعرف ما هو مصير أبنائهم. وبهذا فإنّ القضيّة لا تُحسم عبر تهديدات الكعبي المليئة بالتناقض والطائفيّة، وعليه يفترض محاسبة الكعبي على تصريحه وتهديده، الذي يتنافى مع مهام العمل البرلمانيّ!
يفترض بمجلس النوّاب العمل على إنهاء ملفّ المغيّبين والسلاح المنفلت، وليس العمل على قلب الحقائق والدفاع عن القوى الشرّيرة؛ لأنّ هذه الأساليب غير المدروسة لم تعد تنطلي على العراقيّين الذين وعوا تماماً أنّ العديد من القوى السياسيّة تحاول ركوب موجة الخلافات، وتغذية النفس الطائفيّ الذي يضمن لها البقاء الأطول في اللعبة السياسيّة!
إنّ فتح الملفّات الخطرة والحمراء، ومنها ملفّ المغيّبين، سيقلب الطاولة على الكثيرين، ولهذا يحاول بعض الساسة منع الاقتراب من إثارتها واعتبارها من الملفّات الملفّقة، أو غير الحقيقية لأنّها، ربّما، تشمل بعض المقربين منهم، والذين سجّلت الوقائع الموثّقة تورطهم في جرائم ضدّ العراقيّين في مراحل الخراب والفوضى السابقة.
مَنْ يُريد سلامة العراق والعراقيّين يفترض به أن يعشق العدالة والحرّيّة، وأن يسعى لتطبيق القانون على الجميع، لا أن يحاول التستّر على المجرمين بأساليب سياسيّة سقيمة!
twitter.com/dr_jasemj67