قضايا وآراء

كيف للنائحة الثكلى أن تكون مُستأجرة؟

1300x600
يقول المتنبي في إحدى قصائده:

وأعظمُ ما تُكلّفني الليالي      سُكوتٌ عندما يجبُ الكلام

بيت شعري يُجسد معاناة من يحملون همّا أو يدافعون عن قضية، وقت أن يُفرض عليهم الصمت قسرا وقهرا لا عن رضا واختيار، من لا يملكون سوى أقلامهم وألسنتهم للذود عن المظلومين ولفت أنظار العالم إليهم وما يتعرضون له من قمع وانتهاكات يندى لها جبين الإنسانية خجلا وحياء.

منذ أن شاع خبر التوصيات التركية لقنوات المعارضة المصرية بتخفيف حدة خطابها الإعلامي والالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية، رأينا من يقفون على رصيف الشماتة يسخرون بألسنة حِداد من المعارضة وينسجون روايات استشرافية من نسيج خيالهم لوضع تلك القنوات مستقبلا، وبث روح اليأس في نفوس متابعيها والعاملين فيها، عطفا على خصومة مع هذا أو ذاك بعيدا عن المصلحة العامة. وقالوا في ما معناه: "قريبا ستتحول النائحة الثكلى إلى نائحة مُستأجرة"، في إشارة إلى الالتزام بحدود التعليمات التركية الجديدة، ولم يعد هناك مجال لأي نقد حقيقي وكشف ما يحدث في مصر.

لكن بعيدا عن تلك المهاترات ومزاد الشماتة الدائر منذ صدور التعليمات التركية وخطوات المصالحة مع النظام المصري، لن أتحدث عن أخطاء تلك القنوات ولا ضعف إمكاناتها ومستوى العاملين فيها، بل سأتحدث عن الموقف والمبدأ اللذين من المفترض أن يظلا ثابتين مهما طرأت من تحولات سياسية دفعتها المصالح ونسجتها اجتماعات الغرف المغلقة. ولو كان صاحب كل موقف ومبدأ تراجع وتماهى مع المتغيرات من حوله، لما رُفعت لأحد راية ولا استقر لفصيل سياسي حال ولا انتصرت قضية، ولكانت الحياة لمن غلب ولو كان على باطل.

فمن ارتضى السير في هذا الطريق عليه أن يُكمل، ويتحمل له المغارم إن كان صادقا غير معلول النية أو مأجور يعدد أياما ويتقاضى راتبا، فيميل مع كل ريح، وكلما تغيرت دفة المصالح يكون أول الراكبين باحثا عن مأوى جديد. فمنذ متى والقضايا العادلة وجدت من ينصرها أو يدافع عنها، خاصة في هذا الزمن الذي يدوس الناس فيه بعضهم بعضا ويزداد قسوة كلما ازداد نقاء؟

أنتم فقط من تمثلون آلية استرداد حقوقكم، فلا تركيا ولا غيرها ستجلب حقا لأحد، أنتم من أوصلتم أنفسكم إلى هذا الحائط السد الذي ليس وراءه إلا الفراغ وليس أمامه إلا الاستسلام، وما عليكم إلا أن تعيدوا ترتيب صفوفكم وتخلصوا النية لله لتكونوا محل ثقة واقتناع، فكما أن الدماء تجري داخل الإنسان فتزده نشاطا وحيوية، كذلك الهزائم تأتى من داخل الصفوف.

وإن كان ما حدث يُعد هزيمة معنوية فإن الهزائم التي ألحقتموها بأنفسكم سياسيا أكثر بكثير من الهزائم التي ألحقها بكم غيركم. وكلامي ليس جلدا أو معايرة، لكنه تشخيص للداء الذي هو أول العلاج وتبصير بالصواب، فتصحيح المسار يبدأ بالمصارحة مع النفس ومراجعة الأخطاء وتداركها قبل أن تستفحل وتلتهم الجميع.

فالعلاقات بين الدول قائمة على المصالح لا العواطف، وقد تتغير في أي لحظة، ومن راهن على أي دولة بالمطلق في سِباق المصالح خسر، وإن تحول الأمر إلى مجرد استمرار بلا وزن أو تأثير، حفاظا على سلامة الجميع والرضا بأي حياة، فما الذي تبقى لكم إذن؟ فمن لم يفرض نفسه في الميدان لن يجد له مكانا على الطاولة، فالضعيف ليس له إلا أن يستجدي، كما قال تشرشل: "أنت لا يمكنك أن تُفاوض إلى مدى أبعد من ذلك المدى الذي تصل إليه نيران مدافعك"، فأين تأثير مدافعكم السياسية؟ عند أي مدى وقفت؟

إن النظرة العامة تقول إنه لا سبيل للعلاج إلا بالاتحاد قولا وعملا، والترفع عن الشخصنة والتغني بالأنا. فأنتم حاضنة أنفسكم، ولا مستقبل لأي عمل فردي ولو كان بدافع وطني، حتى لو توفرت له كل الإمكانات. فالمجتمع الدولي لا يحترم الضعفاء وهو مع من غلب مهما كانت جرائمه، لا مع من يملك الحق وإن كان واضحا كالشمس في رابعة النهار، فالحق الذي ليس له ظهير قوي يحميه هو باطل في شرع السياسة.

وحزب العدالة والتنمية التركي نموذج يحتذى به في هذا الصدد، فقد ترجم تلك العبارة إلى واقع عملي. كان في مرمى الاستهداف من نفس القوى التي استهدفت مصر، لكنه تعامل مع المعطيات بالاستعداد وأدوات القوة والتجديد التي أرغمت الجميع للجلوس على طاولة التفاوض وتسوية الملفات الساخنة في المنطقة؛ من منطلق قوة ونديّة لا من منطلق ضعف واستجداء.

فلا مفر من مواجهة الذات ليتجلى لكم أين أخطأتم وأين أصبتم، فالمراجعة روح العمل السياسي وعصب النجاح، والجمود يقود إلى الخمول والنوم في سبات التفاؤل الساذج بأن الغد سيكون أفضل وأنه سوف تتغير الموازين لصالحنا، فالقدر لا يُحابي الكسالى والمتواكلين ومن يستغني بالدعاء عن الأخذ بالأسباب، وإلا كنتم كما قال المتنبي:

وَعاجِزُ الرَأيِ مِضياعٌ لِفُرصَتِهِ      حَتّى إِذا فاتَ أَمرٌ عاتَبَ القَدَرا