ليس من باب المصادفات، أن يدعى رئيس وزراء اليابان يوشيهيدي سوجا لزيارة واشنطن أوائل إبريل/نيسان المقبل، وأن يكون أول ضيف أجنبي رفيع يلتقيه جو بايدن في البيت الأبيض، سبقته زيارة مزدوجة لوزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين إلى طوكيو قبل أيام، وإعلان واشنطن عن اعتبار اليابان حجر الزاوية في سياستها في شرق آسيا، ومواجهة الصين وحصارها اقتصاديا وعسكريا كهدف، هو نفسه الذي ساق الوزيرين الأمريكيين إلى الذهاب لكوريا الجنوبية بعد اليابان، وقبلها جمع قادة أمريكا والهند وأستراليا واليابان في قمة اتصال مرئي، والتمهيد لحملة واشنطن على الخطر الصيني.
بدت ردة فعل الصين هادئة كعادتها الدبلوماسية، رحبت بالزيارات الأمريكية إن كان قصدها التعاون، والتحذير منها إن كانت موجهة ضد «طرف ثالث» على حد تعبير المتحدث باسم الخارجية الصينية، فالصين تتحدث بلغة ناعمة، ولا تذكر شيئا عن قبضتها الحديدية من وراء قفاز الحرير، بينما تملأ الإدارة الأمريكية الدنيا صراخا ضد الصين، وضد ما تسميه سيطرة بكين على بحر الصين الجنوبي، وعزمها على استعادة تايوان، ومن دون أن تخفي واشنطن جزعها من التحدي الصيني، الذي دفع كوريا الشمالية إلى رفض التحدث مع واشنطن، وكوريا الشمالية بالطبع في حمى التنين الصيني، وسمحت لها بكين في ما مضى بإظهار التجاوب الصوري مع إدارة دونالد ترامب، وجرى عقد قمتين بين ترامب وكيم إيل جونغ زعيم بيونغ يانغ، ومن دون أدنى تجاوب مع رغبة واشنطن الحقيقية، وهو الموقف ذاته الذي يتكرر مع إدارة بايدن، التي أعلنت عن محاولات تواصل أمريكية مع قادة كوريا الشمالية.
وأعلن أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، عن ضرورة نزع أسلحة بيونغ يانغ النووية، وهو المطلب ذاته الموروث من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبهدف دفع اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية إلى إدامة الاحتماء بأمريكا النووية، والاستمرار في فرض عقوبات اقتصادية مغلظة على بيونغ يانغ، لم تفلح أبدا في كبح تطورها النووي، وترسانتها الصاروخية، ربما لسبب ظاهر، هو أن حركة كوريا الشمالية محكومة بإرادة الصين، التي تملك أوراقا لا تنفد في الصراع الآسيوي، كما في الصراع العالمي مع واشنطن.
ولا يخفى على أحد، هذه التعبئة الأمريكية الجارية علنا ضد الصين في شرق آسيا والمحيط الهادي، وهي المنطقة الأهم في الصراع على مستقبل العالم، فهي مركز التفاعلات الاقتصادية الكبرى، وفيها وبالقرب منها، عمالقة الاقتصاد الكوني، من أمريكا إلى الصين إلى اليابان والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية وسنغافورة، إضافة لنمور اقتصاد مؤثرة من نوع ماليزيا وإندونيسيا، واقتصادات ناشئة طالعة على طريقة فيتنام وتايلند، فضلا عن صدامات صينية أمريكية جارية في دول أخرى، كما يحدث حاليا في ميانمار، عقب انقلاب الجيش على أونغ سان سوتشي، أيقونة الغرب المصنوعة، وفيها جرى دفع المتظاهرين لإحراق مصانع واستثمارات صينية، فالصراع الصيني الأمريكي وراء الحوادث الجارية هناك، وليس ادعاء أمريكا والغرب بالدفاع عن ديمقراطية موهومة، لم يقم عليها دليل واحد وقت حكم سوتشي، التي منحوها جائزة نوبل للسلام، ونافست العسكريين في عملية إبادة وطرد مسلمي الروهينجا، وتناصرها أمريكا لغايات أخرى، تماما كادعاء واشنطن مناصرة مسلمي الإيغور في شينجيانغ ضد الانتهاكات الصينية، أو مناصرة الهند في صراع التبت الحدودي مع الصين، أو مناصرة متمردي هونغ كونغ ضد الطغيان الصيني، فهذه كلها وغيرها، مجرد أوراق لعب أو تلاعب أمريكية، هدفها حرق الأرض وإثارة المتاعب للسلطة الصينية، ومن دون جدوى محققة.
كلنا يذكر ما جرى قبل ما يزيد على ثلاثين سنة، حين سحقت الدبابات الصينية تمردا ديمقراطيا في ميدان السلام السماوي تيانانمين في بكين عام 1989، وقتها فرضت أمريكا والدول الغربية كلها حظرا على بيع الأسلحة ونقل التكنولوجيا للصين، وكانت النتائج على غير ما اشتهت واشنطن، وبصورة لم ترد في أسوأ كوابيس البيت الأبيض، فرغم الزيادة الفلكية في إنفاق أمريكا العسكري السنوي، ووصوله إلى حافة 750 مليار دولار سنويا، وبما يساوى إنفاق الصين وروسيا وفرنسا وبريطانيا والهند وألمانيا واليابان والسعودية مجتمعة، ورغم الإنفاق الجنوني، فلا تضمن أمريكا الفوز بحرب في المحيط الإقليمي الصيني، التي زادت باطراد من إنفاقها العسكري في السنوات الأخيرة، وصارت أكبر منتج للسلاح في العالم، بعد أمريكا حسب إحصاءات معهد «سيبري» السويدي، وأصبح بوسع بكين، وبقدرة صواريخها فائقة الدقة، أن تدمر كل قواعد أمريكا العسكرية في شرق آسيا خلال الساعات الأولى من نشوب أي حرب مفترضة.
والصين كما هو معلوم، قوة نووية وفضائية كبرى، لم تلزم نفسها بأي اتفاقات لخفض التسلح النووي، ولا يتصور عاقل، أن تلجأ أمريكا إلى حماقة شن حرب عسكرية ضدها، وهو ما يفهمه حلفاء أمريكا الآسيويون، الذين ترهبهم كوريا الشمالية، فما بالك بالصين، التي تتجه إلى تفوق عسكري شامل، زادت فيه إنفاقها العسكري السنوي أخيرا إلى ما يقارب 300 مليار دولار، ولديها بالطبع فوائض مالية تريليونية، تستطيع تمويل صناعاتها الحربية، وتمويل تعاونها اللصيق المخطط مع روسيا بوتين، ثاني أكبر قوة سلاح في العالم، وجمع القوة العسكرية الصينية مع مثيلتها الروسية، يشكل قوة أكبر بكثير من قوة أمريكا العسكرية، التي ترهق الاقتصاد الأمريكي، وتعجزه عن مواصلة المنافسة الضارية مع اقتصاد الصين الصاعد صاروخيا، وفشلت الحرب التجارية الأمريكية في فرملة صعوده، والتوقعات الغربية نفسها، تتنبأ بأن يلحق اقتصاد الصين باقتصاد أمريكا عام 2028، بعد أن كانت التوقعات نفسها، تؤجل موعد زحف الصين لصدارة اقتصادات العالم إلى عام 2032، هذا بحساب الأرقام المجردة المشكوك في أمرها، بينما بحساب المقارنة على أساس تعادل القوى الشرائية، فقد وصل اقتصاد الصين إلى القمة من سنوات خلت، وصارت قيمته الحقيقية السنوية أكبر من 27 تريليون دولار، بينما القيمة المعلنة للاقتصاد الأمريكي عند حدود 21 تريليون دولار، مثقلة بديون داخلية وخارجية تجاوزت 25 تريليون دولار.
تطور الصين العسكري المحتمل إذن، يقفز بالمعجزة الصينية إلى أفق غير مسبوق في تاريخ الدنيا، ففوائض الصين المالية هي الأكبر بامتياز، وبكين تحولت إلى أكبر دولة مقرضة ومانحة، ومشروعها المهول (الحزام وطريق الحرير) يمضي بخطوات مذهلة، وقد صار للصين وحدها أكثر من 35% من تجارة العالم، واقتصاد الصين هو الوحيد بين اقتصادات الكبار، الذي حقق نموا إيجابيا في عام جائحة كورونا، التي تفوقت الصين بلا منافس في حصارها ووأدها في المهد، وبعمل مبهر تعبويا واجتماعيا وتكنولوجيا، بينما افترست الجائحة أمريكا واقتصادها، وهو ما بدت عوائده ظاهرة في علاقات الصين وأمريكا مع الاتحاد الأوروبي خلال العام الأخير.
واشنطن تعتبر أوروبا حليفها التاريخي الأول، وسندها الأكبر في الحرب على روسيا والصين، لكن المفارقة، أن صعد حجم تجارة الصين مع أوروبا إلى 586 مليار دولار في عام 2020، والرقم للمعهد الأوروبي للإحصاء، الذي سجل عجزا تجاريا أوروبيا لصالح الصين قيمته 181 مليار دولار في العام نفسه، وهكذا أزاحت الصين أمريكا من فوق عرش التبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي، الذي تراجع حجم التبادل التجاري لدوله مع واشنطن إلى 555 مليار دولار، وبفائض لصالح أوروبا بلغت قيمته 151 مليار دولار، مع ملاحظة مهمة، هي أن عام 2020 وما قبله، شهد أكبر حملة تحريض أمريكية وأوروبية ضد الصين، استوى فيها سلوك ترامب مع سلوك خلفه بايدن، وجرى اتهام الشركات الصينية العملاقة بالعمل لصالح الجيش والمخابرات والحزب الشيوعي الحاكم، فيما بدت الصين على مرونتها الفائقة، وتصدرها لسباق العولمة الصناعية والتجارية، فقد صارت مصنع العالم الأول، والمستهلك الأكبر للطاقة العالمية، إضافة لقفزاتها التكنولوجية الهائلة، وتطويرها العبقري لنظامها التعليمي، الذي صار الأكثر كفاءة عالميا، وبعدد طلاب يجاوز 450 مليونا، وبطاقة إنتاج رهيبة، فعدد سكان الصين يساوي أربعة أمثال سكان أمريكا، إضافة لجاليات صينية ضخمة خارج الصين، تطبع عوالم الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا بصبغة صينية متزايدة الأثر، وتكاد تنبئ مقدما بنتائج الحرب الباردة الجديدة، فقد انتصرت أمريكا في الحرب الباردة السابقة ضد الاتحاد السوفييتي، لكنه يبدو انتصارا غير قابل للتكرار في الحرب الجديدة مع بكين، فالصين قوة كاملة الأوصاف عظيمة التجانس، وقدرتها على تعبئة الموارد تفوق بمراحل قدرة أمريكا، التي فات أوان تصدرها للعالم كقوة عظمى أولى، ولم يعد لها سوى أن ترقص دائخة على أنغام أغنية «فات الميعاد» للست «أم كلثوم».
عن صحيفة القدس العربي