قد نبالغ قليلاً، حين نقول إن إسرائيل ستواجه خلال السنوات القليلة القادمة تحديات لم تعهدها من قبل، ستفرض عليها أن تغير من طبيعتها وجوهرها بشكل حاسم، ولا نقصد بتلك التحديات مطلقاً، لا صواريخ حماس أو حزب الله، ولا بالطبع احتمال امتلاك إيران للقنبلة النووية، ولكن نقصد بذلك أن الظروف التي نشأت فيها إسرائيل كدولة غير طبيعية، ما زالت تتحكم في سلوكها وسياساتها الخارجية، في حين أن الكون كله من حولها قد تغير، لذا فإن كل ما تشهده إسرائيل من مشاكل داخلية، وحتى من صعوبة التأقلم مع المحيط، ليس الفلسطيني وحسب، بل المحيط الإقليمي، هو ما يؤكد ما نذهب إليه، وما نقصده بكل وضوح.
ليس صدفة أن تواجه "الديمقراطية" الإسرائيلية ظاهرة غريبة، تمثلت في العجز عن تشكيل حكومة مستقرة، خلال عامين مضيا، رغم إجراء أربع جولات انتخابية، رغم أن إسرائيل ومنذ العام 1982، أي منذ أربعين سنة لم تواجه حروباً خارجية، طالما ادعت وقالت إنها السبب في كونها تعيش حياة غير طبيعية، وإسرائيل التي نشأت خلال الحروب الكونية، وعاشت في ظل الحرب الباردة، ما زالت تحتاج إلى تلك الأجواء لتستمر بطبيعتها وجوهرها، لذا فإنها تُعتبر عامل توتير إقليمياً، وصحيح أنها - تقريباً - لم تعد بحاجة إلى الدعم الخارجي على صعيد التمويل، لكنها ما زالت بحاجة له على الصعيد السياسي، لتغطية احتلالها، وهذا الاحتلال بحد ذاته، هو ما يجعل منها دولة غريبة على النظام العالمي بأسره، فهي البلد الوحيد في العالم الذي ما زال على تلك الشاكلة الاستعمارية القديمة.
ويعود جوهر مأزق "الديمقراطية" الإسرائيلية، في كونها "ديمقراطية/عنصرية" إن صح التعبير، فنظامها يسمح للعرب الفلسطينيين بالمشاركة في الانتخاب والترشح للبرلمان، لكنه يمنع عليهم المشاركة في الحكم، ويغلق أبواب المؤسسات الأمنية في وجوههم، وهكذا تتجلى هذه المعضلة، كلما زادت احتمالات أن تزيد الكتلة البرلمانية العربية من قوتها في الكنيست، كما حدث خلال الجولات السابقة خلال العامين المنصرمين، فضلاً عن تأرجح إسرائيل بين خيارين: أن تكون دولة ديمقراطية/مدنية أو دولة عسكرية/دينية، وهذا ما تسبب في تعميق المأزق الديمقراطي بحدوث الانشقاق بين صفوف اليمين نفسه حول هذه المسألة، في حين أن العالم كله ذاهب باتجاه الدولة المدنية التي تتساوى فيها الحقوق بين كل المواطنين.
حتى أميركا نفسها، التي استمرت في رعاية إسرائيل اقتصادياً ومن ثم سياسياً، منذ ما بعد تأسيسها، أي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ها هي تتحول إلى دولة متعددة الأعراق، ويظهر هذا التطور واضحاً في إدارة بايدن الأخيرة، لذا فإن إسرائيل ستواجه تحدياً حقيقياً خلال السنوات الأربع القادمة، على الأغلب، لن تكون هي بعدها كما كانت قبلها.
وباستعراض سلوك إسرائيل خلال العقود الماضية وحتى هذه اللحظة، يلاحظ أنها كدولة احتلال متخمة بالقوة العسكرية وبمنطق الجبروت المعادي لحقوق الإنسان وبشكل عام لحق الشعوب في تقرير مصيرها، طالما وجدت نفسها في الخندق نفسه مع الأنظمة العسكرية والمستبدة في الشرق الأوسط والعالم، وخلال العقود الماضية، كانت دائماً تعتبر صديقة للأنظمة العسكرية في أميركا اللاتينية وأنظمة الانقلابات العسكرية في إفريقيا، وفي غير مكان، وليس آخر هذه الأنظمة، نظام الانقلاب في ميانمار، حيث يعتمد العسكريون في تلك الدولة الآسيوية على المعدات والخبراء الأمنيين الإسرائيليين في تثبيت أركان حكمهم، كما قالت "نيويورك تايمز"، وموقع "الفورين بوليسي"، قبل أيام.
وإسرائيل المحكومة باليمين ما زالت تواجه صعوبة متزايدة في التعايش مع الشعب الفلسطيني، وهي بعد أن فشلت في مهمة نفيه من وطنه، عبر مجازر الإبادة العرقية، رغم أنها كانت قد ارتكبت العديد منها خلال العقود الماضية، ما زالت تعتقد بأنه يمكنها فرض إرادتها الاحتلالية عليه بالقوة، وبمنطق يتعاكس مع المنطق الكوني بالمساواة بين البشر، كذلك هي تواجه صعوبة بالغة وهي على هذه الحالة المسكونة بعقدة الخوف وبإرث الماضي، من الانفتاح على المحيط الخارجي والتأقلم معه بالتالي.
وكل ما تسعى إليه السياسة الرسمية الإسرائيلية، هو تحقيق مصالح النخبة منها، بإنشاء شبكة من العلاقات مع أنظمة الحكم في الدول المجاورة، وليس كلها بالطبع، فهي لا تتوافق إلا مع الأنظمة، وخاصة تلك الأنظمة غير الديمقراطية، ولا تتقاطع مع الشعوب مطلقاً، والأدلة على ذلك بينة وواضحة، إن كان من خلال ما تم تحقيقه من معاهدات "سلام" سابقة بقيت في الإطار الرسمي مع بعض الدول العربية المجاورة، أو ما حققته مؤخراً مع دول أبعد، هي إما دول لا وزن حقيقياً فيها لشعوب قليلة العدد والتأثير، لأكثر من سبب، وإما أنها دول محكومة بأنظمة حكم وراثي فردي، تؤكد ما نذهب إليه، وهو أن إسرائيل إنما هي دولة صديقة للدكتاتوريات، وليست صديقة للشعوب، لا في الشرق الأوسط ولا في العالم.
وحتى في المحفل الدولي، فإن استعراض موقف ومكانة إسرائيل في الأمم المتحدة، التي هي عضو فيها، يؤكد من خلال القرارات المتخذة، أن الجمعية العامة، التي تمثل أغلبية سكان الأرض، وأغلب دولها، أصدرت مئات القرارات التي تدين سياسات إسرائيل الاحتلالية المنافية لحقوق الإنسان، مقابل حماية مجلس الأمن، بما يمثله من "سلطة" مركزية عالمية، لها، وحتى وفق حق النقض لدولة وحيدة في مواجهة أغلب مشاريع قراراته التي أعدت ضدها.
وآخر ما تواجهه إسرائيل على الصعيد القضائي، والعالم يسير نحو عالم أكثر عدالة، تجد نفسها بشكل متزايد في مكانة الدولة المارقة، التي لم يعد العالم بشعوبه، ثم بإرادته وثقافته التي تقلل بشكل حثيث ومتواصل من تأثير القوة العسكرية، وفرض منطق التمييز العنصري، على مواقفه وقراراته، يقبلها.
لذا فإن إسرائيل ماضية لا محالة على طريق وعر وشاق، يستحيل عليها أن تمضي فيه إلى ما لا نهاية، وهي في آخر المطاف ستضطر إلى إعادة تفكيك ومن ثم تركيب كل منظومتها الداخلية، بل إلى عادة تركيب نظامها السياسي، بما يتوافق مع عصر ما بعد الحروب بين الدول والبشر، ولن يجدي معها نفعاً، أن تستمر في الاعتماد على الأنظمة الدكتاتورية، وفي إدارة الظهر لا للحقوق الفلسطينية، ولا في الاستمرار "كدولة" تعتبر ما زالت واحدة من مخلفات الحروب الكونية والباردة.
(الأيام الفلسطينية)