قضايا وآراء

هل يمكن أن تجرى الانتخابات الفلسطينية؟

1300x600
منذ اليوم الأول للانقسام الفلسطيني على إثر الانتخابات الفلسطينية في كانون الثاني/ يناير ٢٠٠٦، حاول الفلسطينيون البحث عن مخرج من المازق الوطني الذي وُضعوا فيه، على إثر رفض نتائج الانتخابات. الكل محليا وإقليميا ودوليا شهدوا أن العملية الانتخابية جرت بشكل ديمقراطي وقدر عال من الحرية والنزاهة، ولكن للأسف الشديد، فإن الدول التي شجعت الانتخابات ودعمت إجراءها سياسيا ولوجستيا ورقابة، وخاصة في الغرب، لم ترق لها النتائج، حيث فازت حماس باغلبية كبيرة تمكنها من تشكيل الحكومة والتاثير بشكل كبير على مجريات الأمور داخل الأراضي الفلسطينية.

وكانت حماس قد خاضت الانتخابات ببرنامج انتخابي يؤكد على حق الشعب الفلسطيني بالمقاومة بكافة أشكالها وعدم الاعتراف بدولة الاحتلال وضرورة محاربة الفساد المستشري في الموسسة الحكومية. وهنا من الجدير الإشارة إلى أن حركة حماس شاركت في تلك الانتخابات إيماناً منها بالديمقراطية منهجاً راسخاً لإدارة الشأن الفلسطيني والتداول السلمي على السلطة، ولا زالت تؤكد في كل مرة وفي كل محفل على ذلك، وتمارسه في كل فرصة تتاح لها داخل التنظيم وخارجه.

الولايات المتحدة وعلى لسان وزيرة خارجيتها في حينه، كونداليزا رايس، هددت الشعب الفلسطيني قبيل الانتخابات وحذرته من انتخاب أي تنظيم يمجد المقاومة ولا يعترف بحق "إسرائيل" في الوجود ولا يقبل بالاتفاقيات السابقة، وهذه الشروط سميت لاحقاً بشروط الرباعية. الأمريكان استطاعوا فرض إرادتهم على المجتمع الدولي برمته، رغم رفض الكثيرين لهذه الشروط المجحفة، أو على الأقل اعتبارها معيقة لأي تقدم في حل الصراع.

فرض المجتمع الدولي للأسف الحصار على الشعب الفلسطيني، استجابة للضغوط الامريكية، مما كان سببا في الأزمة الوطنية التي نحياها اليوم، وأبرز تجلياتها الانقسام والمآسي الإنسانية التي ترتبت عليه. لاحقا أدركت معظم الأطراف التي فرضت الحصار على شعبنا، وخاصة الأوروبيين، أن رفض نتائج الانتخابات كان خطأً سياسياً فادحا وأنّه أدى إلى تعقيد المشهد، بل إن المؤسسات الأممية اعتبرت الحصار غير قانوني وغير إنساني ويجب رفعه فورا وبدون شروط. ولكن للأسف فإن الجميع لم يتمكن من تجاوز الضغوطات الأمريكية واضطروا لتطوير آليات مأسست الحصار وقننته وطنيا، مما جعل التراجع عن هذا الخطأ صعب ومعقد.
رفض نتائج الانتخابات كان خطأً سياسياً فادحا وأنّه أدى إلى تعقيد المشهد، بل إن المؤسسات الأممية اعتبرت الحصار غير قانوني وغير إنساني ويجب رفعه فورا وبدون شروط. ولكن للأسف فإن الجميع لم يتمكن من تجاوز الضغوطات الأمريكية واضطروا لتطوير آليات مأسست الحصار وقننته وطنيا

التقى الفلسطينيون في معظم عواصم الإقليم للحوار بحثا عن مخرج، فالتقوا مرارا في القاهرة والدوحة وإسطنبول وموسكو وبيروت، حتى في صنعاء وداكار عاصمة السنغال. آلاف الساعات من الحوار الثنائي والجماعي، مئات الأوراق والوثائق كتبت، عشرات الاتفاقيات وقعت، على أمل الخروج من المأزق الكبير الذي نعيشه وكانت له انعكاسات خطيرة على قضيتنا الوطنية. الجميع حاولوا البحث عن مخارج تنهي الانقسام وتحقق الوحدة الوطنية بمعناها الشامل، ولكن للأسف باءت هذه الجهود بالفشل، رغم الأثمان العالية جدا التي دفعناها، ولا زلنا، على المستوى الوطني والإنساني.

قد يبحث كل طرف عن تفسير أو تبرير لهذا الفشل، ولكن يقينا فإن العامل الخارجي كان هو السبب الرئيس لذلك، وهنا أقصد بالخارج بشكل أساسي الاحتلال والأمريكان. فالاحتلال كان المستفيد الأكبر من استمرار الانقسام وتشرذم الشعب الفلسطيني، ولذلك سخّر كل أدواته، المحلية والدولية لإحباط هذه الجهود. أمّا الامريكان، ففي إطار رؤيتهم المتماهية إلى حد كبير مع الموقف الإسرائيلي لحل الصراع، والتي تجرد الفلسطينيين من معظم أوراق القوة وأدوات النضال من أجل الحرية والاستقلال، فقد صاغوا شروط الرباعية وفرضوا على البقية الالتزام بها وإلاّ عرضوا أنفسهم للعقوبة.
الاحتلال كان المستفيد الأكبر من استمرار الانقسام وتشرذم الشعب الفلسطيني، ولذلك سخّر كل أدواته، المحلية والدولية لإحباط هذه الجهود

أخبرني بعض المطلعين على أن حوارات القاهرة، بعيد انتهاء الحرب المدمرة على قطاع غزة في آذار/ مارس ٢٠٠٩ والتي شاركت فيها كل الفصائل الفلسطينية وعلى مدار أسبوع كامل، وصلت إلى وثيقة شاملة ومقبولة وطنيا لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة وإعادة بناء منظمة التحرير لتكون ممثلة للكل الفلسطيني. ولكن بعد عرضها على السيد محمود عباس للاعتماد، طلب أخذ موافقة الأمريكان على ما جاء فيها، وكما هو متوقع رفض الأمريكان الوثيقة جملة وتفصيلا، بعد عرضها عليهم، ورجع الجميع بخفي حنين، لنعيش سنوات جديدة من الالم والحسرة. وتكررت اللقاءات وتكررت المسرحية بشكل أو بآخر والنتيجة واحدة: "لا" كبيرة لأي توافق أو وحدة فلسطينية على قاعدة الحقوق الأصيلة لشعبنا الفلسطيني، والتي في مقدمتها عدم الاعتراف بشرعية الاحتلال وحقنا في مقاومته بكل السبل الممكنة كما كفلها القانون الدولي.

وبناء عليه وللإجابة على سؤالنا الأساسي، هل يمكن أن تجرى الانتخابات الفلسطينية المقبلة؟ نعم ممكن ولكن إذا توفرت الشروط التالية:

أولا: على القيادة الفلسطينية الرسمية أن تحسم خياراتها وترمي بثقل القرار أولاً على الشعب الفلسطيني وإرادته، وتحيّد البعد الخارجي وخاصةً الإسرائيلي والأمريكي، أو على الأقل لا تجعله العامل الأساس لبناء استراتيجياتها الوطنية.

ثانيا: على المجتمع الدولي أن يأخذ قراره بدعم واحترام العملية الديمقراطية برمتها، إجراءات ونتائج، وأن يعبر عن ذلك بلغة واضحة محدد لا تحتمل التأويل، فالديمقراطية لا تجزأ، ولا يصح أن نختار ديمقراطية تصلح للغرب حتى لو جاءت بعنصريين مثل ترامب، وديمقراطية لغيرهم من الشعوب، حتى لو عبرت عن إرادة حرة ونزيهة لهذه الشعوب.

ثالثا: على الأمريكان أن يدركوا أن الاستمرار في محاولة فرض قيادة على الشعب الفلسطيني مرفوضة ولن يُكتب لها النجاح، قيادة تتناسب مع معايير "اتفاقية أوسلو"، الاتفاقية التي فشلت في تحقيق أي تقدم أو استقرار سياسي، بل قوضت وتقوض أي فرصة مستقبلية لحل الصراع بشكل عادل ودائم. وما ذكرته السيدة هيلاري كلينتون في مذكراتها بأنهم (الأمريكان) أخطأوا عندما سمحوا بإجراء الانتخابات في فلسطين عام ٢٠٠٦ دون ضمان نتائجها، يعكس عنصرية واستعلاء النخبة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة، والتي لم تنجز إلا مزيدا من الكوارث والمآسي حول العالم، وقللت كثيراً من فرص الأمن والاستقرار على المستوى الدولي.
على الأمريكان أن يدركوا أن الاستمرار في محاولة فرض قيادة على الشعب الفلسطيني مرفوضة ولن يُكتب لها النجاح، قيادة تتناسب مع معايير "اتفاقية أوسلو"، الاتفاقية التي فشلت في تحقيق أي تقدم أو استقرار سياسي،

كل المحاولات التي جرت في السنوات الماضية، بالحصار والحروب، لتزييف إرادة المواطن الفلسطيني وإعادة تشكيل القيادة الفلسطينية، بناء على حاجات الناس الإنسانية ومقاسات الاحتلال الإسرائيلي باءت وستبوء بالفشل.

ويجب عليهم أن يدركوا جيدا أن الشعب الفلسطيني، عندما يختار قيادته، شعبٌ ناضج ويعي جيدا تعقيدات المعادلات الإقليمية والدولية، ويعرف جيدا ما يريده ليبني مستقبلا أفضل، مليئا بالاستقرار والازدهار.

رابعاً: لا يجوز الحديث مجددا عن شروط الرباعية، لأنها استنفدت أغراضها وانتهت صلاحيتها، رغم أنها معطوبة منذ إصدارها. فهل تعقل مطالبة الفلسطينيين بنبذ "العنف" وهم المعتدى عليهم ويدافعون عن أنفسهم وأرضهم ومقدساتهم، ولا يطالب المعتدي بوقف ونبذ العنف في الوقت الذي يمتلك فيه كل أنواع السلاح، بما فيها الأسلحة النووية، ويمارس ضم الأراضي والقتل والتهجير وهدم البيوت والحصار منهجا يوميا تحت سمع وبصر المجتمع الدولي.

ألم يعتبر ممثل الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة في ستينيات القرن الماضي، أنّ "العنف" الذي يمارسه سكان "ناميبيا" ضد دولة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا مبرر ومشروع، على اعتبار أنه ردة فعل على العنف والعنصرية التي تمارسها حكومة جنوب أفريقيا العنصرية، وأنّه دفاع عن النفس؟ ثم أي اتفاقيات سابقة يطالبون الفلسطينيين بقبولها واحترامها؟ تعاملت الحكومات الفلسطينية جميعها، بما فيها الحكومة التي شكلتها حركة حماس مع هذه الاتفاقيات كأمر واقع وأدارت الشأن العام في إطارها، ولم يمتنع أي منا كوزراء من التعاطي مع هذه الاتفاقيات لإدارة الحياة اليومية لشعبنا واستغلال أي فرصة للتخفيف من معاناة شعبنا، حتى لو اضطرنا ذلك للتعامل مع الطرف الآخر أحياناً.

ولكن الأهم، هل لا زالت هذه الاتفاقيات سارية المفعول بعد كل ما أقدم عليه الاحتلال من تجاوزات وانتهاكات، وفي مقدمتها إعادة احتلال الضفة الغربية في عملية السور الواقي عام ٢٠٠٢ وبناء سور الفصل العنصري والتوسع الهائل في المستوطنات والتهام معظم أراضي الضفة الغربية؟ هل سيطالب الاحتلال مثلاً، بالتزامن، بالتراجع إلى ما قبل ٢٨ أيلول/ سبتمبر ٢٠٠٠، أي قبل انطلاق الانتفاضة الثانية؟ أخيراً توافقت كل الفصائل الوطنية والإسلامية في اجتماع الأمناء العامون في رام الله- بيروت في ٤ أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٠ على برنامج الحد الأدنى وطنيا، ويقوم على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران/ يونيو عام ١٩٦٧، والقدس المحتلة عاصمتها، وحل قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم الذين هجروا منها على أساس القرار ١٩٤.
نحن أمام فرصة ذهبية ليخرج الجميع من المأزق الراهن، لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الفلسطينية، مما يمكننا من تجديد الشرعيات وتحصين القرار الفلسطيني وإعادة بناء المؤسسات، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، على أسس ديمقراطية

خامساً: القدس خط أحمر ولن يقبل أي مواطن فلسطيني، فضلا عن قائد فصيل أو تنظيم، انتخابات بدون القدس، فالقدس هي العنوان الأساس للمعركة السياسية الراهنة.

نحن أمام فرصة ذهبية ليخرج الجميع من المأزق الراهن، لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الفلسطينية، مما يمكننا من تجديد الشرعيات وتحصين القرار الفلسطيني وإعادة بناء المؤسسات، بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية، على أسس ديمقراطية، ولا يجوز تضييع هذه الفرصة، لأنّ تداعيات أي انتكاسة جديدة ستكون خطيرة على الشعب والقضية الفلسطينية، وفي مقدمتها تأبيد الانقسام، وعليه يجب العمل على تحصين هذه العملية إجرائياً وقانونيا، بما يكفل إجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، تعكس إرادة شعبنا وتفتح أمامه أبواب مستقبل أفضل.