أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد هزيمة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وانتهاء المعركة في الإقليم، بعد مواجهات عسكرية دامية لما يقرب من أربعة أسابيع، وأن قواته تمكّنت من السيطرة على مكيلي عاصمة الإقليم. في المقابل، تقول قيادات التيغراي إنّها انسحبت من المدن حفاظا على أرواح المدنيين ولإبعاد المدن وآثارها العريقة من الدمار، وهي ما زالت تحافظ على قوتها وتقاتل الجيش الفيدرالي في أطراف المدن والأرياف.
ومهما يكن من ادعاءات الطرفين، انهزاما أو انسحابا استراتيجيا، فإنّ الشيء المؤكد حتى الآن أنّ المدن الرئيسية في الإقليم سقطت في أيدي الجيش الفيدرالي واحدة تلو الأخرى في وقت وجيز. قد يرجع ذلك إلى ضعف الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وتعرضها إلى هزيمة مدوية أمام تقدم الجيش الفيدرالي، أو قد يكون انسحابا مدروسا من جبهة التيغراي لإعادة تشكيل قواتها وفق استراتيجية جديدة ترمي إلى استدراج جيش الحكومة الفيدرالية إلى حرب عصابات طويلة تستنزف قواه، وتعمل أيضا على تفجير الوضع في الأقاليم الأخرى التي تشهد توترات مع الحكومة الفيدرالية لتعود بؤر الصراعات العرقية والإقليمية في إثيوبيا من جديد. وللتيغراي في ذلك خبرات متراكمة، الأمر الذي سيضع الحكومة الفيدرالية بين خياري التفاوض أو تأجيج الصراع. فمن تتبع تطوّرات الأحداث في إثيوبيا عبر التاريخ فإنّ أمر حسم المعركة لن يكون سهلا، فإنّ كلا الطرفين يملكان عوامل القوة والضعف.
ومن نقاط الضعف لجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أنّها كانت حاكمة لإثيوبيا لما يقرب لثلاثة عقود، وأُخرجت من الحكم بضغط شعبي. ويؤخذ عليها أثناء حكمها توطيدها لنظام استبدادي قمعي وتمكينها قومية التيغراي التي تمثل 6 في المئة من السكان من السيطرة في الحياة العامة في إثيوبيا سياسيا وعسكريا وأمنيا واقتصاديا، عبر تحالف الجبهة الثورة الديمقراطية للشعوب الإثيوبية (الإهودق) التي كانت تسيطر فيه، وكل من أراد الخروج من استراتيجية سيطرة التيغراي كانت تتم إزاحته مباشرة من المشهد.
فحكم البلاد كان بقبضة من حديد دون إشراك حقيقي للقوميات الأخرى في الحكم، وهذا ترك لدى القوميات الأخرى مرارات وعدوات ضد التيغراي. وعند خروج جبهة التيغراي من مشهد الحكم كانت مكشوفة الظهر ولم يتبق لها حليف في داخل إثيوبيا.
ومثله أيضا أن علاقاتها مع دول الجوار كانت سيئة مع إريتريا والصومال ومتذبذبة مع السودان وكينيا وغيرهما. وللأسباب السابقة تعرض التيغراي إلى خناق داخلي وحصار خارجي من دول الجوار بعد فقدانهم السلطة. كما أنّ الدول الغربية التي تحالف معها التيغراي في حربها على الإرهاب في المنطقة تركتهم وحدهم. فالدول الغربية في مثل هذه الحالات لا تسعى للحلول الترقيعية ما دامت مصالحها محققة.
فآبي أحمد اليوم هو الأقرب إلى الولايات المتحدة من قيادات التيغراي التي كانت الأقرب إلى الاستراتيجية الصينية في المنطقة. وإنّ العامل الدولي وخاصة أمريكا قد يترتب عليه تحييد قوى دولية وإقليمية أخرى لها استعداد لدعم التيغراي لأغراض مختلفة.
يضاف إلى ذلك عامل آخر ربّما لم يكن في حسبان التيغراي فأربك استراتيجيتهم، وهو دخول سلاح الطائرات المسيّرة التي حيّدت الأسلحة الاستراتيجية التي كانت في حوزة جبهة تيغراي التي كانت تراهن عليها لحسم المعركة. وبالنظر للعوامل السابقة، فإنّ آبي أحمد استثمر في نقاط ضعف التيغراي فاستفادة من الجو الداخلي المرحب بإزاحة التيغراي من المشهد السياسي سلما أو حربا، وعمل في تحسين وإعادة العلاقات مع دول الجوار وخاصة مع إريتريا. ودوليا، أصبح أكثر ميلا إلى الخط الإمريكي من الصيني في المنطقة. وانطلاقا من ذلك، فإنّ الأمور حتى الآن يبدو أنها تميل لصالحه.
وعلى الرغم من ذلك فإنّ هذه الأمور وحدها غير كافية لحسم المعركة لصالحه؛ لأنّ الطرف الآخر أيضا يملك عوامل قوة قد تغلب الموازين، فالتيغراي يملكون تراث شعبي وخبرات متراكمة لمواجهة العدو عبر التاريخ، إضافة إلى ذلك يملكون في الوقت الحالي المال والسلاح والخبرات المطلوبة في إدارة هذه المعركة، والدعم الشعبي والتضاريس الجغرافية المساعدة في خوض حرب طويلة، وخاصة إذا تمكّنوا من إيجاد منفذ إلى العالم الخارجي، فالانتصار عليهم لن يكون سهلا.
أضف إلى ذلك أنّ المعركة لم تبق على المستوى السياسي، بل تحولت إلى معركة قومية، ساهمت في ذلك الحكومة الفيدرالية باستهدافها التيغراي العاملين في أجهزة الدولة المختلفة، العسكرية منها والمدنية دون تمييز، الأمر الذي قد يشعر قومية التيغراي بأنّ الصراع الدائر هو صراع وجود لا صراع نخبة في النفوذ، وبين الأمرين فرق كبير.
وإنّ انسحاب جبهة التيغراي من المدن قد يكون لصالحها بإبعاد المدن والمدنيين من الدمار والحفاظ على قدراتها العسكرية، وستكون الجبهة في حل من أي مسؤوليات بعد انتقال إدارة المدن إلى الإدارة المعيّنة من قبل الحكومة الفيدرالية. فتركيزها سيكون في توجيه ضربات عسكرية مركزة على الجيش الفيدرالي انطلاقا من الجبال والمناطق النائية، وعبر تشكيلات سرية في الإقليم والمدن الإثيوبية الأخرى. وإنّ إطالة أمد الحرب سيكون لصالحها ويخصم من رصيد الحكومة الفيدرالية.
بناء على ما سبق فإنّ هذه الحرب سيترتب عليها داخليا إرساء مفهوم حل الصراعات بالقوة لا بالحوار ات السلمية في المنطقة بشكل عام، وفي إثيوبيا على وجه الخصوص. ومن تداعيات هذا الصراع بعد إزاحة قيادات التيغراي من الأجهزة العليا في الدولة الإثيوبية تقدم الأمهرا، منافسي التيغراي التاريخيين، لملء الفراغ على وجه السرعة بحكم معرفتهم باستحقاقات السلطة.
ويتوقع أن يعزز الأمهرا نفوذهم أكثر في المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية في البلاد، وتباعا العودة إلى النظام المركزي بدل الفيدرالية الإثنية القائمة حاليا. وهذا قد يعيد البلاد إلى عدم توازن القوة بين مختلف العرقيات في إثيوبيا مرة أخرى.
إضافة إلى ذلك، فإنّ الاضطرابات ستؤثر في التحول الديمقراطي في البلاد، وفي النمو الاقتصادي وفي قدوم الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد. إقليميا، فإنّ استمرار التأزم في إثيوبيا سنكون له آثار سلبية في استقرار المنطقة الهشة أصلا، وخاصة بتوعد التيغراي بالثأر من النظام الإريتري الذي تعتبره شريك آبي أحمد في استهدافها، بينما تنفي إريتريا ذلك. وهذا سيؤدي إلى خلط الأوراق في المنطقة، وإلى زيادة موجات اللجوء من مناطق القتال، وانتعاش تجارة السلاح فيها، والجريمة المنظمة، مثل تجارة البشر وغسيل الأموال.. الخ، وتنامى نشاطات الجماعات المتطرفة بسبب التراخي الأمني فيها، وتدخل قوى إقليمية لها مصلحة في إزعاج النظام الإثيوبي، وقوى دولية وإقليمية أخرى لتصفية إراداتها المتصارعة في هذه المنطقة الاستراتيجية.