أعاد السجال الدائر بين قيادات حركة "النهضة" التونسية حول مستقبل التداول على المناصب القيادية في إدارة شأن الحركة استعدادا لمؤتمرهم الـ11، إلى الواجهة مسألة التناوب على المناصب القيادية لدى التنظيمات الإسلامية بشكل عام.
والحقيقة أن هذا السجال المثار في تونس هذه الأيام، ليس هو الأول من نوعه، لا في تونس ولا في باقي التنظيمات المحسوبة على تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية والإسلامية.. لكن الجديد في هذا الملف أنه يأتي بعد نحو عقد من الزمن من اندلاع ثورات الربيع العربي، وانتقال الإسلام السياسي من المعارضة إلى الحكم، ومن السرية إلى العلن..
وعلى الرغم من أن عددا من الحركات الإسلامية تعاملت بسلاسة مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية كما هو الحال في مصر والمغرب وموريتانيا وفلسطين مثلا، إلا أن هذا التداول لم يسلم من خدوش سياسية وأحيانا شخصية طبعت تاريخ الإسلام السياسي الحديث..
عربي21، تسأل: كيف تعاطى الإسلاميون مع مطلب التداول السلمي على المناصب القيادية في تنظيماتهم؟
اليوم يقدم الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، عرضا للتجربة الإسلامية المغربية في التعاطي مع مسألة التداول على المناصب القيادية.
بين المغرب وتونس
ثمة مفارقة مثيرة للدراسة المقارنة بخصوص طرح قضية التداول القيادي في تجربة الحركة الإسلامية بالمغرب، فإذا كانت الحالة التونسية اليوم، تطرح هذا النقاش، بأبعاده الفكرية والتنظيمية والسياسية، على خلفية الخلاف بين مكونات حركة النهضة وقياداتهم، حول القيادة التاريخية (الشيخ راشد الغنوشي) وما إذا كان دوره يشكل صمام أمان للتجربة الديمقراطية في تونس واستمرار دور الحركة في التوافقات السياسية المؤسسة لهذه التجربة، أو أنه أصبح معيقا لتطور هذه التجربة، فإن الحركة الإسلامية، اتجهت إلى ترسيم فكرية التداول القيادي، من غير وجود نازلة تفرض ذلك، فاتجهت، بمكونيها الدعوي ثم السياسي، إلى إقرار التداول القيادي في نظاميها الأساسيين، وذلك قبل أن تعرف المنطقة العربية الحراك الديمقراطي.
فحركة التوحيد والإصلاح المغربية ـ الحركة الدعوية ـ اعتمدت التداول القيادي وحصر الولاية الانتدابية للرئيس في ولايتين منذ بداياتها الأولى التأسيسية، وتحديدا بعد الفترة الانتقالية (1998). أما حزب العدالة والتنمية ـ الحزب السياسي ـ فقد اعتمده سنة 2008، بحصر الولايات الانتدابية في ثلاث ولايات، قبل أن يعدل القانون الأساسي، ويحصرها في ولايتين انتدابيتين في مؤتمر الحزب الذي انعقد سنة 2012.
الدكتور أحمد الريسوني.. ملهم فكرة التداول القيادي
يكشف الأستاذ عبد الإله بن كيران في إحدى كلماته أن فكرة التداول القيادي لم تكن محل نقاش داخل الحزب، ولم يعرف الحزب أي سياق ممهد لها من خلاف قيادي أو نقاش جماعي يترتب عنه وضع تنظيمي أو سياسي، وأن الأمر كان في الأصل فكرة للدكتور أحمد الريسوني، لقيت قبولا داخل الحركة فاعتمدت، وتم نقلها إلى الحزب، ولم تجد أي ممانعة.
على أن هذا الأمر لا يعني بالضرورة أن فكرة التداول القيادي، لم تكن لها خلفية فكرية ومقاصدية عند صاحبها، حاول أن يقنع بها، ويجعلها تحظى بالقبول والتأييد، فليس بالأمر السهل أن تمر قضية بهذا الحجم، دون أن يتم التفكير في مستنداتها الفكرية، وربما تداعياتها التنظيمية والسياسية، لكن القضية لقيت هذا التجاوب السريع، ربما لأن ثمة أرضية فكرة سابقة ممهدة، جعلت القضية تمر بانسياب هادئ، لاسيما وأن الحركة الإسلامية المغربية في فترة إقرار التداول القيادي في الحركة والحزب، كانت تعيش لحظة انسجام قيادي، أو لحظة قيادة جماعية لا تعبأ كثيرا بخلاف القيادة.
والحقيقة أن ما يفسر مبادرة الريسوني لطرح التداول القيادي، هو الخلاصات التي انتهى إليها من دراسته للمقاصد ونظرية التقريب وتطبيقاتها المختلفة، في العلوم الإسلامية، وفي المجال الحركي أيضا، كما كانت أيضا ثمرة اهتمام فكري كبير بموضوع الشورى ومأسستها داخل الأمة، وأيضا داخل بنية الحركات الإسلامية، فالرجل، في بحثه حول الشورى ومعركة البناء، انشغل بمقصد منع الاستبداد والطغيان، وكذا إشاعة جو الحرية والمبادرة وتنمية القدرة على التفكير والتدبير يعتبر إضافة نوعية في هذا المجال، كما انتقد على التجربة الشورية التي عرفتها الأمة بغياب المأسسة، ولم يتردد في الإعلان عن قناعته بأن عدم تقييد الولايات يساعد في تركيز السلطة وبناء شهوة السلطة والاستبداد، كما كان له موقف آخر من تركيز عدد من المسؤوليات في يد شخص واحد، فكان أن لقيت دعوته تجاوبا كبيرا، فتم إقرار الأولى بتفاوت زمني ضئيل بين الحركة والحزب، وتم اعتماد الثانية بتدرج ومراجعة، بحسب حاجيات التنظيم وتداعيات هذه المسألة على فاعليته واستقراره.
حفريات بعيدة في قرار التداول القيادي
والحقيقة، أن قضية التداول القيادي، تمتد لسنوات طويلة، وربما تعود إلى أواخر السبعينيات، فيروي الدكتور أحمد الريسوني في شهادته- ضمن ذاكرة الحركة الإسلامية المغربية- أن الشيخ عبد السلام ياسين في نهاية السبعينيات، تطلع إلى توحيد فصائل الحركات الإسلامية، فعقد مع قادتها وبعض الشخصيات الإسلامية لقاءات في الموضوع، وأنها لن تثمر أي نتيجة، وعلل الريسوني ذلك، بكون الشيخ ياسين، نضجت عنده رؤية حركية، انطلاقا من تجربته الروحية، وما انتهى إليه اجتهاده الفكري، وتقييمه لمسارات الحركات الإسلامية في المشرق، وأنه كان يرى لنفسه مكانة مركزية وروحية في قيادة هذا العمل وتوجيه رؤيته، وأن ذلك لم يلق تجاوبا من قبل هذه التنظيمات، التي كان من رأيها، أن يقوم كل تنظيم ببناء آلته التنظيمية، وأن يتم الحوار بين ذوات تنظيمية مختلفة، على أساس أن يتم التداول الديمقراطي في قضية القيادة، وهو ما لم يتجاوب معه الشيخ عبد السلام ياسين.
وثمة رواية أخرى، لفصيل إسلامي آخر، أخذ المسافة عنه تنظيم الشبيبة الإسلامية مع بداية الثمانينيات (1981) بسبب انسياق قيادتها مع التوجه الثوري الذي لم يكن محل اتفاق داخل التنظيم، فأراد هذا التنظيم (الجماعة الإسلامية) أن يبني بنيته التنظيمية وخطه الفكري، فتم تأسيس التنظيم، كما يروي الأستاذ محمد يتيم في تأريخه للحركة الإسلامية، على ثلاث قواعد أو مبادئ مركزية، هي المرجعية للقرآن والسنة، والقيادة بالانتخاب، والقرار بالشورى.
ويحكي الدكتور أحمد الريسوني حيثيات مهمة تتعلق بدور قضية التداول القيادي في رسم منهجية توحيد الحركتين الإسلاميتين: حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي، في حركة التوحيد والإصلاح، فيذكر كتاب "عشر سنوات من التوحيد والإصلاح" استنادا إلى رواية الريسوني التي أثبتها في شهادته ضمن ذاكرة الحركة الإٌسلامية المغربية، وأنها رغم اعتمادها منهجية التوحيد من أعلى وليس من أسفل، ورغم مغامرتها بتبني مبدأ إحراق السفن (يقصد التنازل عن أدبيات ووثائق الحركتين)، إلا أنها نجحت بفضل اعتمادها على ثلاث مبادئ، هي المبادئ السابقة نفسها التي بني عليها تنظيم الجماعة الإسلامية، أي المرجعية للكتاب والسنة، والمسؤولية (القيادة) بالانتخاب، والقرار بالشورى.
التداول القيادي يدخل مربع الجدل القانوني والسياسي
هذه الخلفية الفكرية، والمسار التوحيدي، شجع كلا من حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية لتبني رأي الريسوني بكل سلاسة من غير تفكير في تداعياته، ومما شجع على ذلك أيضا ما استقر داخل التنظيمين (الحركة والحزب) من قناعات بشأن دور القيادة الجماعية في تدبير المرحلة، ولعل ما يفسر هذه السلاسة، هي الوتيرة السريعة التي انتقل فيها تقييد الولاية الانتدابية للأمين العام لحزب، من ثلاث ولايات إلى ولايتين، أي في أربع سنوات (2008 ـ 2012)، والمثير للانتباه، أن هذه العملية الانتقالية، تمت في عز الانتصار الذي حققه العدالة والتنمية في انتخابات 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، حيث عين بن كيران رئيسا للحكومة، وكان يشغل منصب الأمين العام، وكان يفترض، أن هذا التعديل موجه ضده، لأنه سيحد من حظوظه في ولاية ثالثة.
غير أن هذه القضية، التي كانت مجرد اختيار فكري، تم ترجمته بمقررات تنظيمية، سرعان ما ستصير لها تداعيات سياسية، حاولت القيادة أن تتفاعل معها بمعادلة دقيقة، تحاول ما أمكن أن تجد الصيغة المتوازنة، بين الانضباط للقناعة الفكرية والمقتضى القانوني، وبين الإجابة عن التحدي السياسي، إذ أصبحت من استراتيجية خصوم العدالة والتنمية موجهة إلى محاولة استهداف شخص الأمين العام (عبد الإله بن كيران) إذ كان يتطلع خصوم الحزب تحييده، والقضاء على أسلوبه في إدارة الصراع، فوقع الحزب في احتكاك مع هذا المقتضى الفكري، بل مع مادة قانونية، تقيد ولاية الأمين العام في ولايتين متتاليتين، تنتهي عمليا مع نهاية 2015، حيث انتهى النقاش داخل الأمانة العامة للحزب، بخيار المنزلة بين المنزلتين، أي لا نمدد لولاية كاملة، ولا نسمح بنجاح رهانات الخصوم، فتم الاتفاق على تمديد ولاية الأستاذ عبد الإله بنكران لسنة واحدة، تمكنه من خوض الاستحقاق الانتخابي في رأس الحزب في انتخابات السابع من تشرين أول (أكتوبر) 2016.
والحقيقة، أن التقدير السياسي للحزب توقف عند حدود خوض المعركة الانتخابية، وكان الظن عنده، أن التمديد لفترة سنة، سينهي رهان الخصوم، ولن يكون للقضية أي تداعيات أخرى، غير أن حالة البلوكاج (عرقلة مهمة بنكيران في تشكيل حكومته بتكتيكات تحالفية حزبية)، أنتجت واقعا معقدا، لم تستطع الأحزب فيه أن تقدم جوابا جماعيا موحدا، فتحولت قضية التداول القيادي إلى نقطة توتر، قسمت النقاش السياسي داخل الحزب، إلى توجهين، توجه يقرأ القضية في تداعياتها السياسية، ولا يتنكر بالمطلق لبعدها الفكري والقانوني، وتوجه ثاني، يتمسك بالعد الفكري والقانوني، ولا يكترث بالمطلق للبعد السياسي، أو ربما يرى أنه من السياسة في هذه المرحلة، أن يخرج بنكران من مربع القيادة حتى يتجاوز العدالة والتنمية واقع البلوكاج.
ولأن المسألة بهذه الحساسية الفكرية والقانونية والسياسية، فقد اختار بنكيران ـ بصفته الأمين العام الذي ستنتهي ولايته بعد التمديد الاستثنائي له بسنة عند المؤتمر ـ أن يبقى في منطقة الحياد، وأن تكون الآلية المعتمدة لحسم هذا الخلاف هو المجلس الوطني، الذي انعقد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017.
البعض رأى أن الحزب، في سبيل مقتضيات قانونية قابلة للتعديل، ضحى برمزه الوطني الذي كان يشكل قوته الانتخابية الضاربة، في حين قال البعض الآخر، إن ربح صورة الحزب كحزب ينضبط لقوانينه، ويلتزم باختياراتها الفكرية الديمقراطية، هي القوة التي صنعت كل قيادات الحزب، وإن هذه الاختيارات هي التي يمكن أن تأتي ببنكيران مرة أخرى إلى قيادة الحزب.
اليوم، بعد مرور ثلاث سنوات على قرار المجلس الوطني، ثمة من يقول بأن العدالة والتنمية يوجد في مربع آخر، لا يسمح له بوضع الكفة في خانة زعيم وطني، كان يفترض أن ترصد قوته الانتخابية الضاربة لتحقيق مزيد من المكاسب السياسية والديمقراطية، ولا في كفة بناء صورة الحزب الديمقراطية (حزب يحترم قوانينه ومساطره، ولا يعدلها على مقاس الزعيم) في مخيال الرأي العام، فأمام التراجع الديمقراطي الذي شهده المغرب، ومسؤولية خيارات الحزب السياسية في ذلك، ربما، تم التضحية بالرصيدين، رصيد دور زعيم وطني، ورصيد صورة ديمقراطية مفترضة.
إسلاميو تونس والديمقراطية التنظيمية.. مراجعة هادئة 2من2
إسلاميو تونس والديمقراطية التنظيمية.. مراجعة هادئة1من2
دعاوى التسامح مع الأديان.. لماذا تضيق بالإصلاحيين الوطنيين؟