سي السيد!

بالرغم من إقراره بالموافقة على ربط رفع اسم السودان من اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب والبدء في عملية التطبيع مع دولة الكيان الإسرائيلي، لم يفت وزير الخارجية السوداني المكلف، عمر قمر الدين، التأكيد على أن انضمام بلاد اللاءات الثلاث لقطار التطبيع لم يتم بإملاءات أو ضغوط من الإدارة الأمريكية، وإنما كان تقدير موقف من المسؤولين في مجلسي السيادة والوزراء. كيف لا وللسودان مجلس "سيادة" تكوّن بعد اختطاف العسكر لانتفاضة شعبية، قالوا في البدء إنهم حامون للمشاركين فيها؛ المعتصمين قبالة مقر القيادة العامة للجيش، قبل أن يقتلوهم ويشردوهم بدعوى محاربة الجريمة المنظمة في "منطقة كولومبيا".. ثورة سودانية لم يقدر لها، كما مثيلاتها في الدول العربية، أن تنجح في تحقيق طموحات الشعوب في الديمقراطية، حيث تمخض جبلها فلم يلد إلا "مجلس سيادة" تابع لدول الإقليم، وخانع أمام القوى الدولية ومهرول إلى التطبيع من الكيان المغتصب لفلسطين في لقاءات سرية لم يفضحها إلا نتنياهو ومساعدوه ومعهم الإعلام العبري.

السيادة هي الكلمة السحرية التي اهتدت إليها "زعامات" ومسؤولو دول الهرولة الجدد، ومن في طريقهم لتبرير الخروج عن أضعف الأيمان ممثلا في مبادرة عربية للسلام كان أعلنها العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز؛ وجعلتها "القمم العربية" دستورا يسترشد به في تحويل العلاقات السرية المستشرية في جسد الأمة كالسرطان إلى اتفاقات معلنة توقع من محبرة القفز على الثوابت، أملا في تحصيل شرعية مفقودة أو اعتراف دولي.

ينسى هؤلاء أن دونالد ترامب، المستفيد الأكبر من تلك الاتفاقات، لم يترك لهم حتى شرف الإعلان عن القرارات تلك، بل أمعن في الإهانة بجعلهم مجرد قوم تبّع لتغريداته أو معلقين على مكالمات هاتفية حرص أن تكون موجهة لرئيس وزراء إسرائيل دونا عن غيره من الموقعين والمعنيين. بعدها تخرج علينا أبواق الذل والعار لتعلن أن ممارسة السيادة أمر لا تنازل عنه؛ في خطابات عنترية عصماء يبددها الواقع في مواجهة أول امتحان اللهم من مقايضة دول الهامش العربي على اللحاق بالركب أو الحرمان من المساعدات.

قد يكون أمر ارتماء الامارات والبحرين في أحضان التطبيع مفهوما لأنهما دولتان بلا تاريخ أو تجربة سياسيين كفيلين بفتح نقاش مجتمعي حول قرارات الملوك/ الملاك، لكن السودان بما راكمه من حراك سياسي وانتماء عروبي يبدو أقرب لاسترجاع السيادة وحق القرار ولو بعد حين.

الدول العربية، حيث يمارس الحكام سيادتهم أو ساديتهم على المحكومين، فضاءات جغرافية مخترقة ومستباحة؛ يصول ويجول فيها سفراء الكفلاء الغربيين طولا وعرضا بلا حسيب أو رقيب، يتدخلون في الشؤون الداخلية ويؤثرون في القرار "السيادي" ويرسمون أفق السياسات. هم يعلمون كما يعلم "الزعماء" أنهم الحكام الفعليون، وما دونهم مجرد أدوات.

فيلم (طلق صناعي – 2018) للمخرج خالد ذياب

داخل السفارة الأمريكية بالقاهرة، يخطط زوجان يسعيان للحصول على التأشيرة لاستغلال وجودهما داخلها كي تضع الزوجة طفلا ينال الجنسية ويمنحها لهما بحكم كونها أرضا أمريكية بحكم القانون. تنقلب الأمور على وقع شجار أطلقت على أثره أعيرة نارية داخل السفارة. يصل السفير الأمريكي وقوات أمنية مصرية بقيادة اللواء حافظ، فيختلفان في طريقة تدبير التفاوض مع الزوج حسين عبد السلام.

السفير الأمريكي: اللواء حافظ.. مفيش اقتحام ولا استخدام للقوة.

اللواء حافظ: سيادة السفير.. أحب افكرك ان الداخلية هي المسؤولة عن أمن أي منشأة على أرض مصرية.

السفارة مش أرض مصرية. السفارة أرض أمريكية.

اللواء حافظ: أرض أمريكية على أرض مصرية.. نفذ يا يوسف..

السفير الأمريكي: (وهو يخرج هاتفه).. نشوف رأي رئيس الوزراء.

اللواء حافظ: رئيس الوزراء؟ رئيس الوزراء لما يشوف ملازم في الداخلية بيوقف انتباه من حديد. سيبنا نشوف شغلنا يا افندم. المركب ايلي فيها رئيسين بتغرق.

السفير الأمريكي: بلاش رئيس الوزراء.

اللواء حافظ: آخرك هاتو (يبتعد عنه) يوسف.. خمس دقايق والاقتحام يكون خلصان.

يوسف: اعتبره حصل يا افندم.

اللواء حافظ: (يرن هاتف اللواء) آلو.. تحت أمرك يا افندم. اديني فرصة اشرح لمعاليك. تمام يا افندم. تمام. اعتبرو خلصت. تمام يا افندم.. سلام. يوسف.. خمس دقايق ومش عاوز اشوف عسكري قدام السفارة.

يوسف: والاقتحام افندم؟

اللواء حافظ: قلت لك خمس دقايق ومش عاوز اشوف عسكري.

السفير الأمريكي: الدكتور يخش له حالا..

اللواء حافظ: دخل الدكتور يا يوسف.. حاجة تانية سعادتك؟

السفير الأمريكي: عايزين معلومات أكثر عن الخاطف.

اللواء حافظ: يوسف. بنفسك يا يوسف.. بنفسك تعمل لي تحريات عن ايلي اسمه حسين عبد السلام ده. بسرعة.

السفير الأمريكي: وهنا غرفة عمليات أمريكية مش مصرية.

في لبنان وقّع عشرات الآلاف على عريضة تطالب بعودة الانتداب الفرنسي. ما كان لشيء أن يتغير لو تحقق لهم المُنى غير تغيير مسمى السفير الفرنسي لممثل الانتداب الفرنسي، وهو واقع تعيش البلاد على وقعه كما كثير من مثيلاتها في جغرافيا الخنوع المسماة وطنا عربيا.

عندما استفاقت بيروت على وقع صدمة انفجار مرفئها، صال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في طرقاتها وأزقتها وبيوت "الحكم" فيها، يرسم آفاق المستقبل ويوزع الوعود ويرسل التهديدات. بعدها بأسابيع، ولدت في بيروت، على غير العادة، حكومة برئاسة سعد الحريري، الذي حرره ماكرون قبل ثلاث سنوات من قبضة الكفيل السعودي، وثار عليه اللبنانيون وأسقطوا حكومته قبل أن يعود للرئاسة في الذكرى الأولى للحراك. إنه الفشل الذي يلاحق الانتفاضات العربية أينما تحركت الجموع.

ماكرون، كعادته، اختار توقيت زيارته لتصادف الذكرى المئوية لإعلان لبنان الكبير. الرئيس ميشيل عون، الذي كانت السفارة الفرنسية بلبنان ملجأه هربا من القوات السورية في تشرين الأول/ أكتوبر 1990 قبل أن يُمنح، أشهرا بعد ذلك، لجوءاً سياسيا بفرنسا التي وصلها على متن سفينة حربية وقضى بها خمسة عشر عاما، كتب في جريدة لوفيغارو مرحبا بالزيارة الماكرونية بالقول: "إننا نعيش لحظات تاريخية، تخط عميقا في تاريخ الأمم. فلتستعد الأخوة والصداقة حقوقهما. وإنني، فيما أتطلع إلى المستقبل، أستقبل الرئيس إيمانويل ماكرون، لنحيي معا مئوية إعلان دولة لبنان الكبير، فنجدد عرى الأخوة بين أمتيّنا ونضع الخطوط الكبرى للمئوية الثانية للبنان، أرض العسل والبخور".

أما الطبقة السياسية، بما فيها محور الممانعة، فلم تستطع مقاومة تلويحات الرئيس الفرنسي بعقوبات محتملة ضد من يقف في وجه مشروعه في لبنان، المشروع الذي لا يمكن فصله عن الضربات المتتالية التي تلقتها فرنسا في ليبيا وشرقي المتوسط مقابل توسع النفوذ التركي.

في لبنان تحدث ماكرون وكأنه الحاكم الفعلي للبلاد، أما الحريري فقد كان واضحا في التأكيد على أجندة محرره من المعتقل السعودي حين اعتبر المبادرة الفرنسية السبيل الأوحد لإنقاذ بلاد الأرز من الجحيم.

بين التدخلات الفرنسية والأمريكية وغيرهما، تتقزم السيادة العربية في الداخل، ويختفي أي تأثير ممكن في مجريات الساحة الإقليمية أو الدولية بالرغم من الأسلحة الكثيرة التي كان بالإمكان شحذها لولا أنها أهدرت في سبيل ترسيخ أنظمة الاستبداد.

السيادة لم تكن يوما مجلس حكم ولا إنشاء لغويا تدبج به البيانات، بل هي ممارسة على الأرض تُبنى بالمواقف وتُرص بالمبادرات دعامتها إمكانات مادية وبشرية مؤهلة وقدرة على المواجهة ومقاومة التهديدات والضغوط. غير ذلك، فالخنوع والخضوع والاستسلام والهرولة لكسب الرضا سيبقى سيفا مسلطا على رقاب الحكام المتواطئين والمحكومين المستلمين.