قضايا وآراء

المعرفة والمكابدة

1300x600
توثِّقُ الكتب فهم الآخرين للحياة، ومكابدتهم غمارها. وشرط الانتفاع بالحد الأدنى منها هو تحقُّق الحد الأدنى من التشابُه بين التجربة الموثقة المدوَّنة، وبين مكابداتك الحقيقية واليومية لتاريخك. ولهذا السبب، فلا يتشكَّل فهمنا للحياة بكم الكتب/ التجارِب التي نقرأها وحده، بل يلزم أن نكتوي بنير الحياة نفسها وننصهر في أتون تجاربها؛ حتى يتفتَّق إدراكنا واضحاً جليّاً لما نُحصِّله من الكتب. وذلك لأن المعرفة النظرية عقيم إذا كانت مجرَّدة لم تصحبها مكابدة حيَّة لما يتلقاه الذهن. ومن ثم، فإنك قد تجد عاميّاً أميّاً أكثر حكمة وأعظم نُضجاً من "مثقَّف" أفنى عمره بين الكتب، وذلك كما قد يكون هذا العامي نفسه أشد تقوى لله/ تديناً من "شيخٍ" مُعمَّم أفنى عمره في حفظ المتون الفقهية وتلقينها.

إذ أن المعرفة "الحقيقيَّة" ليست نظريَّة- تأصيلية بالضرورة؛ بل هي معرفة حركيَّة-حياتيَّة يُشكِّل الكسب فيها شذرات يتوارثها المجتمع ويُراكمها على المفطور. وهو يفعل ذلك في لا وعيه الجمعي، حتى في أشد لحظاته خواءً وانحطاطاً؛ لتنتقِل شذور هذه الباقة المعرفيَّة (شفاهة وبالتلقين) من جيل إلى جيل، كما ترسَّخت أصولها في كل جيل بحركته على مُقتضى ما أدرك منها وحملته عزيمته عليه. لهذا، فإن مهمة الكتب الجيدة ليست "خلق" المعرفة، ولا مُساعدتنا على فهم عالم نجهله كليّاً؛ بل كشف أصول النوازع المفطورة، وتسجيل تجلياتها ونماذجها الحيَّة، والحفاظ على مقدرة الإنسانية في التمييز بين الخير والشر (وتنويعاتهما) مهما طال عليها الأمد. إن مهمة الكتب هي أن تُفتِّق إدراكنا للمعارف المغروسة في فطرتنا، وهي تفعل ذلك بمخاطبة المشترك الفطري، وتجلياته "المتقارِبة"، ومكابداته "المتشابِهة"، وخبراته "المتقاطِعة".

وربما لهذا السبب، كانت أروع لحظات القراءة عندي بإطلاق هي حين أسمع أنين الأديب من أفواه شخصيَّاته، حين تتكشَّف لي معاناته وأسئلته، وتتجلَّى في روعي حيرته وخبراته الحقيقية من ثنايا عباراته. حين أقف على الجملة قائلاً: هاهُنا كان يتكلَّم عن نفسه قطعاً، وهذا الألم ناضح بصدقه. ففي هذه اللحظات الفذَّة يُشعرني "الصدق الفني" باقتراب إنسانيٍّ شديد من الأديب أو الكاتب، كأن معاناته معاناة حقيقية لي؛ تؤثر في ولا تمحى أبداً. وواقع الأمر أنه لولا التقاطع والتشابُه والتقارُب لما استشعرت صدقه ولا صدق تجربته. ولولا أني ذُقتُ بعض ما يبوح به، لما كان لبوحه قيمة أكثر من كونها كلمات متراصة فوق سطح مُعتِم خالي من الحياة!

وتزداد لحظة الكشف كثافة وثقلاً بازدياد التقارُب والتشابُه والتقاطُع، حتى لكأني أكابد ما يقول المؤلف/ الكاتب مُكابدتي لتاريخي؛ فكأن التجارب والمكابدات تصبُّ في غاية واحدة، وكأن الآلام والهموم قد تحدَّرت من ذات المعين. ربما لهذا كان الأسلوب القرآني قصصيّاً في مجمله، إذ هو أسلوب يتغلغَلُ هادئاً في النفس بخبرة موازية، وألم مواز، ومكابدة موازية، ولا يُثير حفيظتك بالتلقين الأيديولوجي السطحي أو الوعظ البارد المباشر؛ فإنما هو إسلوب يَحفُر في النفس دروبه العميقة، حفراً وئيداً يجعل من العبرة حياة حقيقية، ومن الحياة عبرة هادية.

فقط حين أدركت ذلك؛ فهمت معنى النصحية الثقيلة الشاقة: "اقرأ القرأن كأنه أنزل عليك"، فإن عجزت عن مكابدته، كما كابده صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلن يخلف في نفسك أي أثر كمستخلف. قد تستمتع بأثره الفني كبيان معجز، أو بدقة تناوله كتشريع محكم؛ لكنَّه لن يحفر في وجدانك شيئاً. إذ كيف يترك فيك أثراً وأنت مشغول عن حياته بحياةٍ أخرى تنأى بك عنه، فلا تكابده لتتشكل نفسك ووجدانك به؟!

لقد أنزل القرآن، أولاً وقبل كل شيء؛ لتتشكَّل به النفوس.. عميقاً عميقاً. أنزل لتكابده، ولتكابد الحياة به، ولتكابد الوجود كله به. هذه المكابدة هي التي تُعيد تشكيل النفس والوجود، ومتى وضعت أقدامك على هذا الطريق فقط؛ تتنزَّل عليك نفحاته وتغير تكوينك إرشاداته، ساعتها قد تصلح لك تشريعاته وأحكامه، التي هي محض مُكمِّل لما صار قوام كل نفس ومادة ما بين جنبيها. وقد كان المثل الأعلى لذلك هو ما وصفت به أم المؤمنين (الصديقة بنت الصديق) حضرة حبيبها صلى الله على حضرته وآله وسلم أنه "كان خلقه القرآن"؛ فكأن نفسه الشريفة - بأبي هو وأمي - قد قُدَّت من التنزيل الحكيم، صلى الله عليه وآله وسلم.