قضايا وآراء

الإيمان والمعرفة

1300x600
الفهم عن الله مُعلَّقٌ كُليّا باستشعارك لمعيَّته سبحانه وتعالى، وليس بحجم المعارف التي تُحصِّلها ولا بمدى "جودة" تحصيلك. وربما لهذا السبب كان من أفضل الدعاء سؤاله سبحانه العلم النافع "في أصله"، أي العلم الموصول بالله؛ الذي يُحيي القلب بمعيَّته ولا يحجب البشري عنه تعالى بحجاب النفس واغترارها بحجم أو طبيعة ما حصَّلت. ومن ثم، اقترنت درجة الفهم عن الله هي الأخرى بحجم الإيمان، فهي فرع منه وعالة عليه، وتجلٍّ لهداية الله، ولحُسن استقامة العبد على هذه الهديَّة. وما من معرفة نظريَّة يتم بتحصيلها إيمانك، وتصير بامتلاء صدرك بها مؤمنا. فقد جُعِلَت المعرفة كلها لضبط حركتك في الوجود على مقتضى إيمانك، المجعول في روعك جعلا؛ لا لخلق إيمانك أو حتى لزيادته. بل إن الإيمان قد ينهار بزيادة بعض المعرفة عن حد الحاجة الحقيقيَّة (فاوست وبلعام بن باعوراء مثلا).

وإذا كان الإيمان يزيد بالطاعة، وينقُصُ بالمعصية؛ فلا علاقة من ثم (في سلوك وشعور أكثر أهل الأرض) لهذا المؤشر المتذبذب أبدا، بحكم الجبلة البشرية وثِقَل طينها؛ بحجم المعرفة. وإن ظلَّ أشرُّ الخلق من أضلَّهم الله على علم؛ فهم أشد الخلق خطرا على أنفسهم وعلى البشرية. عالِمٌ بلا وازع، وعلم منفصل عن القيم الأخلاقية؛ علم يبغي به صاحبه كما فعل قارون. وربما لهذا السبب لم يجعل الله من حجم المعارف (ولا كم المخترعات أو الأدوات التقنية) مناطا للتكليف، ولا سببا من أسباب ظهور دعوة الإسلام على ما عداها، بل جعل ذلك الفتح مُعلقا بمشيئته الطليقة، وبحُسن استقامة الدعاة على ما اقتضته هذه المشيئة في عالم الشهود.

وبناء على ذلك، كان التبشير بفتوحات العلوم الطبيعية والتقدُّم المادي، بوصفها خلاص المسلمين، أو حتى نصرة دعوتهم؛ محض سذاجة قد أقلع عنها الغرب "الملحد"، الذي آمن بها لقرون، إذ تكسَّرَت على صخور اللاتيقُّن والعدمية. غير أن هذا الاتجاه قد راج بين المسلمين المحدَثين، في الثلث الأخير من القرن العشرين، بتأثير الديباجات التي احتفظ بها اليسار المتحول إلى الإسلام (أمثال جلال كشك، وطارق البشري، وعادل حسين، ومحمد عمارة.. إلخ) ومن تتلمذ عليهم من الأجيال التالية.

لقد أرسل الله الرسل لتزكية الخلق، وتذكيرهم بالآخرة، ولم يُرسلهم لتدشين فتوح علميَّة أو تقنية. وكذا كان ابتعاث هذه الأمَّة الوسطى إتماما لمهمة الرسل، واستمرارا لها بعد الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا كانت حركة الإنسان في الوجود (بين الالتزام بتعاليم الرسل والتفلُّت منها) قد أثمرت هذه "الفتوح العلميَّة"؛ لتيسير معيشته وتسهيل حركته، التي تطرد بعد ذلك للترف والاضمحلال، فمن الحمق التعامل مع الوسيلة بوصفها غاية، بل هي قد لا تصح أحيانا في أصلها ليتخذها المؤمنون وسيلة، خصوصا إن كان مُنتجها كافرا لا خلاق له، وكان المسلم تابعا مهزوم الروح مفرَّغ الوجدان؛ إذ إنه في هذه الحال يُقبِل على الوسيلة ويستوعبها بمضامينها الأيديولوجيَّة، ولا يستطيع تجريدها من هذه السموم لعجزه عن الاستقامة على ما ابتُعِثَ به.

فإن صحَّت الوسيلة، وصحَّ للمؤمن استعمالها؛ صارت مجرَّد أداة لتيسير الحركة الإنسانية في الوجود، وليست وسيلة للدعوة إلى الله؛ إذ إن للدعوة وسيلتها التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل؛ فالله قد تعبَّدنا بالدعوة إليه بأنفسنا (التي نجتهد في تزكيتها)، لا بما كسبت أيدينا من متاع الدنيا وزُخرفها من الفتوح العلمية "المجردة"!

لهذا، كان تقدير وتحديد حجم المعارف والعلوم والتقنيات، التي يحتاجها المجتمع المسلم؛ مرتبطا بأمر واحد فقط لا غير: تيسيرها عليه عملية تزكية نفسه؛ لتتجسَّد فيه قيم الوحي وتصح به الدعوة. أي أن تكون حدود هذه العلوم والتقنيات والمعارِف هي تيسير سُبُل التزكية للمؤمن بقدر ينفي العوائق ويزيحها، وبغير انزلاق للدعة أو الرفاه.

فاعلم أيها المؤمن، أن المعرفة (والأدوات التي تُنتجها) تُطلَبُ إلى الدرجة التي تصح بها تزكيتك لنفسك، لتنطلِقَ بيسر في الأرض كداعية إلى الله بنفسك، وما زاد على ذلك فسرف مذموم، وترفٌ مفسد؛ يحرف الفرد والمجتمع المسلم عن الوجهة الحقيقية: السلوك إلى الله. فإن علِمتَ ذلك؛ أيقَنتَ أن الله أخرج هذه الأمة لتدعو إليه بنفسها، لا لتدعو إلى نفسها بما أتيح لها من معارف وما تُنتجه من أدوات ووسائل. وشتان شتان!