قضايا وآراء

هل هناك معرفة "جديدة"؟

1300x600
ثمة تجربة مُتكررة مألوفة، مشهورة عند طلاب العلم وأهل القلم وأرباب الثقافة والفكر؛ أن تَمُرَّ بنصٍّ أو متنٍ أو نقلٍ مُعيَّنٍ مرور الكرام، عشرات المرات، وربَّما مئات المرات؛ ولا يحرك فيك شيئا. وقد تستَخِفُّ بدلالاته وتغفَل عن طبقاته حتى تُسقِطه من بؤرة وعيك، والأنكى أنك قد تكون له حافظا عن ظهر قلب من كثرة التكرار (يحدث كثيرا حتى مع حفظة القرآن)، لكنَّه لا يغور في داخلك أعمق من ذلك، ولا يُسهم في تشكيل وجدانك. ثم في لحظة معينة مقدورة؛ إذا إدراكك يصطدم به كأن بصرك يقع عليه للمرة الأولى، أو كأنه يصك سمعك لأول مرة.. هل مررت بهذه التجربة؟ هل تستطيع تفسيرها؟ وهل تستطيع أن تُخبرنا لم قد يهزك الكلام "المألوف" في لحظة معينة هزا عنيفا لا سابقة له؟!

يرى جبران خليل جبران أننا لا نتعلم شيئا جديدا من معارفنا الكليَّة، فهي مغروسة داخلنا غرسا ربانيّا؛ وإنما تتفتَّقُ المعرفة من فطرتنا حين يُحفزها إلحاح الحاجة وصدق المكابدة. ويؤكد علي عزت بيغوفيتش ذلك إذ يقول: لا يتلقى إجابة إلا من يؤرقه التساؤل. أي أنه لا يهم عدد الأسئلة التي فاض بها وجدانك، ولا كم من الوقت اعتمَلَت في نفسك؛ وإنما الأهم هو مدى إيلامها لك إذ بقيت بغير إجابات، وإلى أي مدى أرَّقك البحث عن إجابة؛ فإننا لا نُدرِك الإجابات إلا حين تؤرقنا التساؤلات أرقا حقيقيّا، مهما كانت الإجابات مُتاحة مبذولة في الواقع!

وقد جعلني هذا الفهم، من ثم؛ أدرِك لم كانت بعض النصوص تترك في نفسي أثرا غائرا، وتُعيد تشكيل وجداني؛ بينما يمر عليها الكثرة مرور الكرام. لقد كنت أحتاج إلى تلك المعرفة ولم يكونوا يحتاجون إليها. كانت حاجتي وجوديَّة، مؤرِّقة مُلِحَّة؛ إذ كانت تجيب على أسئلتي، وتُعينني على الحركة التي افترضتها على نفسي، وكانت عندهم معرفة باردة، أو لا علاقة لها بحركتهم؛ لهذا كنت أتأثر ولم يكونوا يتأثرون.

إذ أن "المتلقي" حين يتعرَّض إلى النص/ الكلام/ النقل بغير أسئلة، وبغير مكابدة حقيقية لحمولته "الميتافيزيقيَّة"، وبغير حاجة حقيقيَّة لمحتواه "الإرشادي"؛ فإن ذلك كله لا يصل إلى قلبه، ولو حَفِظَ حروفه وعباراته عن ظهر قلب. إذ تصير هذه التراكيب في روعه مُجرَّد معرفة سلبية نظريَّة ساكنة، أو بالاصطلاح النبوي: علم لا ينفع.. مجرَّد زحام بارِد من التفاصيل المزعجة؛ يملأ الرأس ويُثقِلُ القلب بالمسؤولية، رغم أن من يئن لوطأته عاجز عن التفاعل مع تلك المعرفة، والإفادة منها؛ فكأنه الحمار يحمِل أسفارا.

ربما لهذا كان تعامل صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مع القرآن أنهم لم يكونوا يستزيدون منه، كما وصف سيدنا عبد الله بن مسعود؛ بل كانوا يتعلَّمون عشر آيات بعشر آيات، فيعملون بما تعلّموا قبل الانتقال إلى غيره، وذلك رغم أن القرآن قد أُنزل عليهم مُفرَّقا وموافقا لمكابداتهم "النموذجية"، ومجيبا على أسئلتهم الملحَّة و"الراهنة"! لكنَّ هذا هو جوهر التعلُّم وحقيقته: العمل/ الحركة بما علمت(1)، أو موافقة واقع الحركة الإنسانيَّة لبيان المعرفة.

أما حين يصطدم "المتلقي" اصطداما شديدا ثقيلا بالمعرفة؛ فهذا يعني أنه يُكابدها أو يُكابِدُ حالا تجعله يحتاجها. إنه يتحرك، أو يحاول مُخلصا الحركة؛ فيتلقى المعرفة بالوجدان المطلوب. إن تلبيتها لحركته يأخذ بزمامه إذ تهزُّه هزا، وهو معها ينتقل فورا من مرحلة التحصيل إلى مرتبة الإدراك (لهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: "بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع")؛ إذ الإدراك ابن حركة ووليد مكابدة.

إنه إذا كانت المعارف الكليَّة كلها مبذولة لفطرتنا كامنة فيها مذ خلق الله آدم، وعلَّمه الأسماء كلها؛ وإذا كان الرسل والأنبياء قد بُعثوا وأنزِلت معهم الكتب للتذكير بهذه المعارِف، وتنمية غرسها على مقتضى التوحيد؛ فإن المكابدة هي التي تُخرِج هذه المعرِفة من حاشية الشعور إلى بؤرته؛ ليُعيد المؤمن بذلك الفهم عن الله تقسيم المعارف لا إلى قديم وجديد (مُستحدَث)، وإنما إلى معارف مكابدة ومعارِف بارِدة. وإن معارف المكابدة، ومكابدات المعرفة؛ هي الصورة الوحيدة التي تجعل العلم نافعا. فلا تتعلَّم إلا ما تعجز عن الحركة بدونه.. لا تتعلم إلا ما يجيب عن أسئلتك الملحَّة، وتعوَّذ بالله مما تعوَّذ منه حضرة الصادق المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم - أي من كل علمٍ لا ينفع؛ أي من كل معرفةٍ باردة لا تحملك إلى الله ولا ترفع درجتك عنده.
__________
(1) لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة بالذات؛ يُراجع مقالنا المعنون: "مع القرآن"، وهو متاح على الإنترنت.