قضايا وآراء

الدعاية الروسية التي تناقض نفسها بشدة

1300x600
في الذكرى الخامسة للتدخل في سوريا، شنت الآلة الإعلامية الروسية حملة منسّقة لتجميل الفعل الروسي ورفعه إلى مصاف الأعمال التاريخية الكبرى، والتي شكلت مفصلاً مهماً في تاريخ الإنسانية، بل إنها قطعت مع مرحلة تاريخية، لو استمرت لكان شكل العالم اليوم غير العالم الذي نعيشه، عالم يسيطر عليه "داعش" وأخواته، ويفرض قيمه وتقاليده.

لقد أنقذت روسيا العالم من خطر عجزت القوى العالمية عن مواجهته، بل إن هذه القوى، والمقصود هنا الغرب، تواطأ، بغباء، وتحت ظلال تقديرات خاطئة، في صناعة داعش، من أجل هدفين انتهازيين: الأول، الإطاحة بنظام الأسد، والثاني، فرض رؤاها على الشعوب والتحكم في مسار توجهاتها السياسية والاجتماعية!

ولمنح الدعاية الروسية صدقية أكبر، تخترع الآلة الإعلامية الروسية معطيات وأرقاما، ليست فقط غير موجودة، بل أكبر من قدرة الساحة السورية على احتوائها. فمثلاً تكرر وسائل الإعلام الروسية أقوال وزير الدفاع الروسي بأن القوات الروسية قتلت 130 ألف إرهابي! ودمرت آلاف المعسكرات، وآلاف مستودعات ومخازن الأسلحة، وأكثر من ذلك، كسرت دورة الثورات "الملونة" في المنطقة.

ليس خافياً، أن هذا الشكل الدعائي مصمّم للوصول إلى الرأي العام العالمي، وخاصة الغربي، حيث يركز على البعد الأخلاقي للسياسات الروسية المهتم بإنقاذ العالم من الظلام، مقابل السياسات الغربية التي في سبيل تحقيق غاياتها الدنيئة المتمثلة في السيطرة على مصائر الشعوب، لا يضيرها التحالف مع الشيطان، وهو هنا "داعش" والقوى المتطرفة، وفي هذا الجانب تبدو السياسات الروسية من صناعة الملائكة، لا همّ لها سوى القيام بأعمال الخير، والحفاظ على القانون الدولي، واحترام سيادة الدول والنظام الدولي.

لكن، ثمّة جانب من الدعاية موجه للرأي العام الروسي، الذي تساءل على الدوام عن دواعي وضرورات التدخل العسكري الروسي في سوريا، في حين أن روسيا غارقة في الأزمات الاقتصادية والمشاكل السياسية وينخرها الفساد وتتحكم مراكز القوى فيها بلقمة الناس.. ما الفائدة وروسيا تتراجع على كل المستويات والأمة الروسية تموت بسبب تراجع المنظومة الصحية، وتخلف المنظومة التعليمية وانتشار الإدمان على المخدرات والكحول لدرجة باتت روسيا تتصدر قوائم الدول الأكثر إدماناً وانتحاراً؟

هنا، تتخلى الآلة الإعلامية الروسية عن دور الملائكة لمواجهة منتقدي سياسة الكرملين في روسيا، وتظهر وجه تدخل روسيا الحقيقي، وتصبح سوريا "ساحة رخيصة لتجريب الأسلحة الروسية"، و"بفضل الميدان السوري باعت روسيا أسلحة بـ15 مليار دولار".. والكلام منقول عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أكد شويغو أن الميدان السوري منح الجيش الروسي فرصة هائلة على التدرب على القتال وتطوير قدراته في هذا المجال، بل إن إحدى الصحف الروسية تباهت بأنه لا أحد غير بوتين يستطيع الحصول على قاعدة بحرية لمدة 49 عاما وبالمجان، أو يمتلك قاعدة بحجم حميميم دون أن يدفع أي مقابل.

لكن بعيداً عما تحاول ماكينة الإعلام الروسية ترويجه للرأيين الخارجي والداخلي، يبدو أن هذه الماكينة لا تفعل سوى سماع صدى صوتها والاستمتاع بهذا الأمر، ذلك أن العالم أجمع، بنخبه وعامته، يعرف أن روسيا لم تحارب "داعش" و"النصرة" وسواهما من أصحاب الرايات السود، إلا في أضيق الحدود، وهؤلاء كانت عناوينهم معلومة وليست سراً، فلم تقاتل روسيا في الرقة ولا دير الزور، وهي المعاقل الأساسية لداعش، إذ ليس خافياً أن القوات الأمريكية هي من تتكفل بالمهمة هناك.

وليس خافياً أن من حاربتهم ونكلت بهم روسيا، هم في الغالب أولئك الثوار الذين كانوا يحرسون أحياءهم في حلب وغوطة دمشق، ودرعا، ولم يكن لداعش أو النصرة وجود في هذه المناطق سوى بأعداد محدودة جداً. واللافت مثلاً أن وجود "داعش" في دمشق كان محصوراً في مخيم اليرموك، وكان مجرد عصابة صغيرة محاصرة من كل الجهات ولا تملك طرق إمداد، وكانت عناصره تعالج في دمشق (مشفى المهايني في الميدان)، وتتم إعادتهم إلى اليرموك. ثم إنهم آخر من خرج من محيط دمشق، بعد ضمان تدمير اليرموك نهائياً وجعله غير قابل للسكن، وترحيلهم إلى بادية السويداء، ليرتكبوا مجزرة بحق أناسها الذين كان يرغب نظام الأسد بتأديبهم لرفضهم الزج بأبنائهم في حربه ضد السوريين.

وبالطبع لن يذكر الإعلام الروسي، المنتشي بالذكرى الخامسة للتدخل الروسي، أن الحملة الروسية حوّلت المدن السورية إلى ركام، وأسهمت في تشريد الملايين من السوريين، وقتلت الآلاف من النساء والأطفال. وبالتأكيد لن تأتي على ذكر سرقة الاقتصاد الروسي وابتزاز بشار الأسد بين بقائه في السلطة وحمايته، وبين تسليمه ثروات البلاد لشركات طباخ بوتين، كما لن يقول الروس إنهم تحولوا إلى بلطجية ولصوص ومافيات يقتلون ويسرقون السوريين في وضح النهار.. فهل سيجدون من سيصدق أكاذيبهم؟

twitter.com/ghazidahman1