قضايا وآراء

نصيحة إلى الدولة والمُعلمين والإخوان في الأردن!

1300x600
هذا المقال لن يُعجب الإخوان ولن يُعجب نقابة المُعلمين ولن يُعجب بعض الأجهزة داخل الدولة! (لذا اقتضى التنويه)..

أما النصيحة الأولى فهي مُوجهة إلى جماعة الإخوان "الأم" (لأن هنالك الجماعة "الأب" بحسب تعبير الباحث الأردني إبراهيم غرايبة) التي أعتقد أنها تُخطئ أحيانا في استفزاز الخصم عبر بعض شخوصها وبياناتها المتعددة، من حيث يشعرون ولا يشعرون.

فقبل أزمة المُعلمين بأسبوع تقريبا صدر قرار قضائي من أعلى مرجعية قضائية في الأردن (محكمة التمييز، قرار رقم 1203/2020) يقضي بحلّ جماعة الإخوان بعد صراع طويل في أروقة المحاكم، والذي قرر فيه القضاء أن الجماعة الأم غير شرعية وغير مُرخصة، أي أن الجماعة التي رُخصَت عام 1946 أصبحت مُنحلَة حُكما لأنها لم تُصوب أحكامها القانونية وفق أحكام القانون عام 1953 عندما طُلب من جميع الجمعيات في الأردن إعادة ترخيص نفسها حينها، وأن تعامل الجهات المختصة معها لا يعطيها الصفة القانونية منذ عام 1953! علما أن الجماعة قد أصدرت بيانا قبل أكثر من سنة أكدت فيه على ثقتها بالقضاء العادل ونزاهته وأحكامه الصادرة عنه، فوجب لها حُكما أن تنصاع لرأي القضاء، سواء اتفقنا أم اختلفنا مع نتيجته، وسواء أقلنا بأن القرار سياسي أم أمني، فقد أصبحنا أمام قرار قضائي مُلزم يضع الجماعة في موقف مُحرج قانونيا.

وبرغم كل ذلك قامت الجماعة بإجراء انتخاباتها الداخلية لمنصب المراقب العام ورئيس الشورى والمواقع القيادية الأخرى، وقامت بإصدار أخبار صحفية وإعلامية تفيدُ بأنه قد تم تجديد مدة جديدة لقيادتها بانتخاب المراقب العام السابق وانتخاب رئيس جديد لمجلس الشورى! وبدأت صفحات المؤيدين تُهنئ وتبارك لقيادات الإخوان وكأنهم في دولة أخرى! في رسالة فهِمتْ منها (حسب اعتقادي) بعض الأجهزة داخل الدولة أنها رسالة استفزازية.

وقد كان حريّا بالإخوان عدم فعل ذلك، وكان عليهم إجراء انتخاباتهم بصمت، وأن يُركزوا على العمل السياسي من خلال حزب الجبهة المُرخص والابتعاد عن استفزاز "السيستم" بهذه الطريقة.

وأنا أعتقد أن هذه الطريقة في العمل السياسي لدى الإخوان يجب أن تتغير، غير أن ماكينة الإخوان وطرائق تفكيرهم وفهمهم للوضع السياسي لم تتطور كثيرا بكل أسف. وهذا الفعل السياسي لديهم تعود جذوره العميقة إلى الطريقة التي ينتهجها العقل السياسي الإخواني، دون الخوض في التفاصيل التي تحتاج إلى تحليل يعتمد على فهم العمق التاريخي للإخوان.

وتجدر الإشارة إلى أن الدولة بموجب هذا الحكم القضائي تستطيع اعتبارهم تحت بند العقوبات "جمعية أشرار" إذا مارسوا أية أعمال بهذا الاسم! أو صرّحوا بأي تصريح إعلامي في وسائل الإعلام المختلفة، وهذا باعتقادي سيكون الخطوة الثانية القادمة لتحجيم الجماعة في ظل إصرارها على "الشكل" وليس المضمون.

أما نصيحتي إلى نقابة المُعلمين، فتتلخص بالابتعاد عن استفزاز "السيستم". فمن غير المعقول أن تُصدر النقابة خطابا قبل أزمتها بأسبوع توضح فيه خطوات العمل القادم من إضرابات واعتصامات من أجل تحصيل حقوقهم التي سُلبت منهم. فقيادة النقابة محسوبة شئنا أم أبينا على الجماعة الأم التي قامت بالأمس بفعل "الاستفزاز"، فلا يمكن إنكار أن بعض شخوص جماعة الإخوان يشكلون العامود الفقري لنقابة المعلمين (وهذا لا يعيبهم فهم منتخبون بطريقة ديمقراطية)، لكن الدولة تدرك ذلك وتعرف أن المُحرك الرئيس لأي فعل نقابي هي العقلية الإخوانية التي تميل غالبا إلى الصراع الصفري وإلى إعلاء خطاب المظلومية والتحدي.

ومن يفهم سيكولوجية الإخوان يدرك تماما ما أعنيه، وقد شاهدنا كيف أن معظم بيانات النقابة تبدأ أو تنتهي بآيات قرآنية كانت قد نزلت في سياقاتها الرئيسة لتتحدث عن علاقة المؤمنين بالكافرين الظالمين لهم! ورأينا كيف تمت استعارة بعض الشعارات من دول عربية مجاورة كشعار "استرداد الشرعية!"، وغير ذلك، في إشارة غير مُوفقة لاستخدام مصطلحات غير ذكية "يطربُ لها الخصم" في التعامل السياسي ويتلقفها كهدية على طبق من ذهب.

لم تُحسن قيادة النقابة إدارة الملف بطريقة نقابية وذكية مهنية تتعلق بالإنجاز والحفاظ عليه؛ فهي نقابة منتخبة بطريقة حضارية وديمقراطية، وهذا هو اختيار المعلمين لهم وهذا هو سرّ قوتها، لكن يبدو أنها باتت تعتقد بعد انتصارها في الجولة الأولى قبل عامين (التي أدارتها بكل كفاءة وحصلت فيها حقوقا للمعلمين طالما اعتقدنا أنها أقل ما يمكن تقديمه للمعلم) أنها قد كسبت الحاضر والمستقبل وكسرت شوكة الخصم! حيث بدأت عبر نائب نقيبها وغيره من القيادات بإصدار تصريحات غير مُوفقة (تنتظرها الأجهزة بشغف) كمقولته في بدايات الأزمة أنه "لو ارتدت علينا الكرة الأرضية مش الحكومة الأردنية وأجهزتها لن نتنازل عن علاوتنا".. هذا الخطاب باعتقادي خطاب مزعج وغير ذكي ويُفقد النقابة بُعدها المهني، وكان يمكن مخاطبة الحكومة والتواصل معها بطرق أفضل بكثير.

نقابة المعلمين في الأردن مُكتسب وطني عظيم ولا يقل أهمية عن مُكتسب مجلس النواب، برغم التشوهات في قانون الانتخاب. يجب أن نحافظ على هذا المكتسب وأن نتعامل بذكاء وحكمة، وأن نقوم بعمليات تحليل معمق تُخلصنا من الضعف المنهجي في الأداء أحيانا لبعض مؤسساتنا المدنية المُنتخبة التي يجب أن نحافظ عليها ونرعاها، وأن نبتعد عن بساطة الوصف والتشخيص لعمق الأزمة التي نعيشها في العالم العربي، وأن ننطلق من هذا المنطلق في سبيل الحفاظ على مكتسباتنا الوطنية. فالصراع ليس صفريا أو لإقصاء طرف أمام طرف آخر، لكنه تدافع بين قوى تمتلك السلطة، وقوى مجتمعية تمتلك الإرادة للتغيير، وبين قوى كذلك أساس بقائها الفساد والاستبداد وتمتلك القوة والقرار والنفوذ، وقوى مجتمعية بدأت تتشكل وترتب صفوفها حديثا.

نحن نعيش في عالم عربي يتمتع بنصف ديمقراطية أحيانا أو أقل من ذلك أحيانا كثيرة، ويجب أن نُدرك هذا المشهد ونفهمه ونتعامل على أساسه، ويجب أن يُدرك قادة العمل العام أن المُكاسرة مع الأنظمة مهما كانت قضيتك عادلة لن تُجدي نفعا، فهنالك دولة عميقة في كل مجتمع عربي تتحكم بالمشهد وذات نفوذ وذات تأثير وذات سطوة وسلطة.. هنالك دول في العالم العربي تم تمزيقها من قبل السلطات وأصبحت دولا مُمزقة بحسب تعبير "هانتينغتون"؛ لأنها رفضت للأسف مبدأ قوة الشعب أو سلطته أو إرادته الحُرة بالانتخاب!

أما النصيحة الثالثة، فهي لبعض الأجهزة التي تتحكم في المشهد، أو لبعض شخوصها الذين يتعاملون مع المشهد بعقلية البتر والقمع. فنحن ندرك في العالم العربي أن جدار الخوف الذي كان يحيط بالأجهزة قد هُدم في ثورات الربيع العربي، وأن هدف الأجهزة بشكل عام هو "إعادة بناء جدار الخوف" بنفس الطريقة السابقة!

وهذا خطأ استراتيجي يقومون به لعدم إدراكهم طبيعة التحولات النفسية والمجتمعية التي طالت الشعوب العربية. فوسيلة الأمس لا يمكن إستخدامها اليوم، وأسلوب القمع والإقصاء والتهميش والتحكم الأحادي بالمشهد سيزيد من إصرار الناس، وسيُساهم إيجابا في بناء مجتمع مدني عميق (بحسب تعبير المفكر المغربي الطُّلابي) يقف بوجه الدولة العميقة أينما كانت.

فمشكلتنا الحقيقية مع الذين يتحكمون بالمشهد أنهم يفتقدون إلى خبرات حقيقية في قراءة المشهد الاجتماعي وقراءة التحولات في المجتمعات؛ التي بلا شك ستعطي قوة وزخما لأي حراك مجتمعي قادم. وبكل تأكيد فإن الذي حصل من قمع للنقابة سيتم اختزانه في وجدان الناس والمُعلمين، وخصوصا من الطبقة الوسطى من الناس التي لن تنسى ذلك.

ولا يخفى على أحد أن الدورة الثانية من الربيع الديمقراطي العربي قادمة لا محالة، لكنها ستكون أكثر تنظيما وأشد تاثيرا.

في خلفية المشهد، كيف نستطيع أن نفهم أن وزارة التربية قد رتبت للقاء تشاوري مع نقابة المعلمين قبل اعتقالهم بأيام عبر خطاب وصلها من وزير التربية، ثم يتم قطع خيط التواصل والتشاور قبل اللقاء عبر قرار أمني لا يعرف عنه الوزير المختص؟ وكيف نفهم قرار المدعي العام بحل النقابة وإيداع أعضاء مجلس النقابة "المنتخبين" السجن؛ دون تكفيلهم ودون اللجوء إلى الطرق القانونية في التعامل معهم؟

وكيف نفهم حالة القمع واستخدام القسوة في جميع المظاهرات السلمية التي قام بها المناصرون لقضية المعلمين في مختلف المحافظات، ومعظمهم من الطبقة المتوسطة التي تشعر بالقهر وشاهدت العجز الحكومي في مواجهة ماكينة الفساد الحقيقية داخل المجتمع؟ وكيف نفهم هذا التشدد والتعسف في استخدام الصلاحيات ضد المتظاهرين السلميين؟

وكيف نفهم استمرار اعتقال مجلس النقابة المنتخب دون تكفيلهم، وتشكيل لجنة حكومية لإدارة النقابة؟ كيف نفهم كل ذلك إن لم يكن ارتدادا على إرادة المُعلمين ورغبة في كسر شوكتهم بقرار أحادي من جهة غير حكومية؛ ما زالت تفكر بالعقلية القديمة وبنفس الوصفة الأمنية التي أدخلت دولا عربية عديدة أزمات سياسية ومجتمعية كارثية؟

ويبدو لي أن سيناريو "جمعية المركز الإسلامي في الأردن" والتي تم وقف إدارتها المنتخبة منذ سنوات طويلة وتشكيل هيئة مؤقتة لإدارتها؛ سيتكرر مع نقابة المعلمين، من حيث إبقاء مجلس النقابة ونقابة المعلمين مُعلّقا لسنوات عدة دون إجراء انتخابات تحت ذرائع عديدة، وهو الأمر الذي تستطيعه السلطات بسهولة!

أخيرا، فكما نصحتُ النقابة بعدم الاستفزاز من أجل مصلحة الوطن في نهاية المطاف، أنصحُ الأجهزة بعدم الاستفزاز من أجل مصلحة الوطن كذلك، وأن تتراجع قليلا وتتريث، وأن تتوقف عن استخدام وسائل القمع القديمة المُهترئة، فهنالك مجتمع مدني عميق بدأ يتشكل ويُوحد جهوده داخل المجتمعات العربية ليقف في وجه ماكينة الفساد والتسلط والاستبداد، وأن هذا التفرد والإقصاء هو الوقود الحقيقي في المستقبل لإنضاج العقل العربي الجمعي من حيث لا يشعرون أيضا. فهنالك شوق كبير لدى المجتمعات العربية لامتلاك إرادتها السياسية وإلى الحرية المدنية ومحاربة الفساد ومحاربة التسلط الأحادي، وستظهر هذه القوة المجتمعية فجأة وبقوة كما ظهرت في كل العالم.

ولا أظنه خارج السياق أن نُذكر الجميع بأن الربيع الديمقراطي في أوروبا قبل عقود وقرون كانت إرهاصاته المجتمعية والسياسية تماما كإرهاصات الربيع الديمقراطي في العالم العربي، وحصلت موجات شديدة متلاحقة من الربيع الأوروبي قادت جميعها إلى نجاح المجتمعات هناك في نيل حريتها، والحصول على ديمقراطية حقيقية جعلت من الشعب مصدرا حقيقيا للسُلطات، فتراجعت قوة الأجهزة وأصبحت تخضع للمساءلة والشفافية وقوانين الحوكمة الرشيدة، وانتصرت إرادة الشعوب في نهاية المطاف.

يبدو أن الطريق السياسي في العالم العربي طويل وشاق ومليء بالصعوبات، وهو بلا شك صراع بين قوى وتيارات فكرية سياسية وأمنية وسلطوية ستنتصر فيها إرادة الشعوب في نهاية المطاف، لكنها بحاجة إلى قيادات مجتمع مدني ذكية وتتعامل باحتراف سياسي متقدم؛ تستخدمُ فيه وسائل وأدوات وطرائق جديدة لإدارة التدافع في ظل الاستقرار والأمن لمجتمعاتنا وأوطاننا بلا شك، وهو الأمر الذي يجعل المعادلة صعبة والمهمة شاقة.