تسبب تصاعد دور التكنولوجيا حياتنا اليومية في تزايد
منصات نشر الأخبار، وكذلك توسيع دائرة تداول الأخبار على السوشيال ميديا، فأصبحت
معايير كثير من المؤسسات الصحفية والإعلامية لا تتعلق بالمهنية ولكنها تتعلق
بالحصول على أكبر عدد من المتابعين، فأصبحت تلك المؤسسات تقوم بنشر أخبار غير
صحيحة وغير دقيقة، وبعضها يختلق أخبارا فقط لجذب انتباه القارئ والحصول على عدد
كبير من الزيارات يتحول إلى ربح من العائدات الإعلانية، وأصبحت بعض وسائل الإعلام
تقوم بنشر الأخبار اعتمادا على "الترند" في وسائل التواصل الاجتماعي،
وتختلق الأخبار التي تناسب الترند لتحصل على المشاهدات، فأصبحنا كل يوم نجد أخبارا
منسوبة إلى مصادر "مُجهلة" حول أمور مثيرة وبتتبعها نكتشف أنها زائفة أو
مضللة، مثل:
مصدر يكشف زواج فنانة من سياسي شهير، مصادر تكشف
تعرض فنانة لعمليات تجميل، مصادر تكشف علاقات خفية بين سياسيين ورجال أعمال،
وبتتبع مثل تلك العناوين فإن التقارير تخلو كليا من أي مصدر معروف، أو أدلة على
المعلومات المنشورة، حتى أن الوكالات الإخبارية الكبرى، أنشأت أقسام عمل كاملة
للتحقق من الأخبار الكاذبة والمزيفة، وبعض المواقع نشأت بالأساس لتتبع تلك الأخبار
الكاذبة التي دائما تنسب إلى مصادر "مُجهلة".
تعلمت وكل من درس الصحافة في الجامعة أو حصل على
تدريبات في المجال أنه ليست كل معلومة خبر، وليس كل خبر قابل للنشر، وليس كل مصدر
أهل للنشر عنه، وليس كل تصريح قابل للنشر.
هناك قواعد واضحة تضبط عملية النشر الخبري في
المؤسسات الصحفية والإعلامية، الهدف منها بشكل أساسي هو ضبط المواد والقيم الخبرية
التي يتم نشرها على وسائل الإعلام للحفاظ على صدقية المؤسسات الإعلامية وبالتالي
تكتسب المصداقية لدى الجمهور، فضلا عن عدم التسبب في خلق حالة من حالات الفوضى
المعلوماتية غير الصحيحة وغير المؤكدة ومُنتزعة السياق، والتي تساهم بشكل أساسي في
تزييف الوعي العام، وفي أقل مراحلها تعمل على تضليل القارئ وتوجيهه في اتجاه خاطئ
لخدمة أهداف ما.
لذلك فإن من القواعد العامة للنشر الخبري أن تُنسب
كل معلومة إلى مصدرها، وألا يتم استخدام المصادر المُجهلة، بدون ضبط للاستخدام.
والمصادر المُجهلة هي تلك المصادر التي يقوم بعض الصحفيين بنشر معلومات وينسبونها
إلى "مصدر رفض ذكر اسمه" وبالتالي أصبح مجهولا للقارئ، ولا يستطيع
القارئ أن يحكم على مصدر المعلومة وأن يقرر أن يصدقه أم لا.
وقد وضع خبراء مهنة الصحافة وشيوخها قاعدة لضبط
استخدام المصادر المُجهلة، وتم تلخيص تلك القاعدة في أن يتمتع المصدر بالجدارة وأن
تتمتع المعلومة بالاستحقاق.
تدور القاعدة حول أن يكون المصدر الذي زود الصحفي
بمعلومات ما جديرا بالحصول على تلك المعلومات، فعلى سبيل المثال:
إذا أقدم أحد الموظفين الكبار بديوان عام مجلس مدينة
ما، بتزويد صحفي بمستندات تثبت تورط رئيس المدينة في وقائع فساد، ففي هذه الحالة
المصدر جدير بالحصول على تلك المستندات والمعلومات، وهذا لا يعني أن يقوم الصحفي
بالنشر الفوري، ولكن يجب أن يقوم بتحقيق خاص للتأكد من تلك المعلومات، ويستطيع في
هذه الحالة الاعتماد على هذا الموظف كمصدر أساسي لنشر المعلومة بعد التأكد، منها
حتى وإن طلب الموظف عدم ذكر اسمه.
أما إذا قام أحد المقاولين المتضررين من قرارات
سلطات الحكم المحلي بالمدينة بتزويد الصحفي بمستندات من داخل ديوان رئاسة المدينة
حول تورط رئيس المدينة في وقائع فساد، فعلى الرغم من أن المستندات مهمة، والمعلومة
في حال صدقها ستكون "خبطة صحفية" مهمة، إلا أنه على الصحفي أن يتوقف عند
هذا المصدر ويسأل: هل المصدر جدير بالحصول على تلك المستندات؟ هل هذا المصدر مخول
له أن يدخل مكتب رئيس المدينة وأن يحصل على تلك المستندات؟؟
بالتأكيد لا، وهذا لا يعني أن يتغافل الصحفي عن
القضية، ولكن هذا يعني أنه لا يمكن أن يقوم بنشر تلك المستندات فورا، ولكن عليه أن
يعتبر هذه المستندات هي معلومات أولية يجب التأكد منها، وعليه أن يسعى للحصول على
مصدر آخر يتمتع بالجدارة الكافية للحصول على تلك المعلومات وتأكيدها، ولا يمكن
أبدا بأي حال من الأحوال نشر تلك المستندات اعتمادا على المقاول، ونسبها إلى مصدر
رفض ذكر اسمه. فقد يكون هذا المقاول على خلاف شخصي مع رئيس المدينة، أو متضررا لأي
سبب ما ويسعى للإطاحة برئيس المدينة أو تشويه سمعته، وبالتالي فإنه على الصحفي في
كل الأحوال أن يبدأ تحقيقه الخاص في التأكد من تلك المعلومات، ولا يمكن في أي حال
الاعتماد على المقاول كمصدر رئيس لنشر الرواية.
وهنا ننتقل إلى الجزء الآخر من القاعدة، وهي
الاستحقاق، هل تستحق تلك المعلومة فعلا إخفاء مصدرها؟ هنا يضع خبراء المهنة معيارا
أساسيا للإجابة على هذا السؤال، وهو أن يكون نشر هذه المعلومة على لسان هذا المصدر
ستعود عليه بأي نوع من أنواع الضرر، مثل الملاحقة الأمنية، أو الرفد من الوظيفة،
أو الملاحقة من قبل عصابات إجرامية، وفي هذه الحالة على الصحفي أن يقرر إذا ما كان
سيتحمل مسؤولية النشر وحده، ويجعل اسم المصدر مجهولا، أم لا، وفي كل الأحوال لا
يمكن نشر اسم المصدر إلا بعد موافقته على نشر اسمه، بشرط أن يكون بالأساس يتمتع
بالجدارة للإدلاء بتلك المعلومات.
ورغم أن تلك القواعد المهنية ليست حديثة، وتوارثتها
أجيال من الصحفيين بعد أجيال، إلا أننا نعيش الآن في فوضى الأخبار الكاذبة
والمضللة والخادعة والمنحازة، ليس لشيء إلا لتحول بوصلة عدد من المؤسسات
الإعلامية، وتغير معاييرها من معايير الجذب الإعلامي المهنية إلى معايير الجذب
الإعلاني غير المهنية.
وهناك فارق كبير بين العمل الإعلامي الجذاب، فهو
يستخدم عناصر الإثارة والتشويق لإمتاع القارئ وجذب انتباهه للقضايا الهامة
والُملحة، وبين العمل الإعلاني الجذاب الذي يعتمد على جذب انتباه العميل بكل وسائل
الخداع الممكنة، فالعمل الإعلامي عمل رسالي وله دور حيوي في بناء وعي وثقافة
المجتمع، أما العمل الإعلاني فهو عمل دعائي يتمحور دوره في خداع العميل، وإيهامه
بأن السلعة المراد ترويجها هي احتياجه الفعلي حتى لو كانت رفاهية وغير هامة وسيئة
الجودة. لذا فحينما تتحول بعض المؤسسات الإعلامية إلى مؤسسات إعلانية في شكل
وقوالب إعلامية فهي تسيء إلى المهنة وتزدري عقول البشر.
* صحفي متخصص في شؤون المجتمع المدني