(1)
في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات، كنت ضيفاً على الأستاذ هيكل (الجورنالجي
محمد حسنين هيكل) في الشاليه الصيفي على الساحل الشمالي لمصر، وهذا يعني أن اللقاء كان بعيداً عن المظهر الرسمي الذي يحرص عليه في لقاءات مكتبه بالقاهرة، وكذلك عن الموضوعات الرسمية والتحليلات التي يغلب عليها الطابع المعلوماتي أو
الاستشهاد التاريخي والاستشهاد بمقتطفات من
لقاء زعماء أو مسؤولين.
كان اللقاء مع إنسان عجوز بملابس بحر بيضاء، وعكاز يطمئن عليه بعينه بين لحظة وأخرى، كأنه يخشى من فقدانه. وكان ذلك العجوز المتأنق قد انكسرت ساقه قبل شهور، وخلال رحلة العلاج اكتشف كسراً أخطر من انكسار الساق، لن استخدم تعبيرات سائدة هذه الأيام مثل "انكسار الروح" أو "انكسار الأحلام" أو حتى انكسار
الصورة والأوهام اللذيذة للغرور الإنساني، لكن هيكل اكتشف انكسار الزمن.. انكسار فكرته عن الحياة، ولعل هذه الفترة هي التي أنتجت "عنوانه الأخير" الذي صاغه في حدود العائلة بهدوء المستسلم الراضي بالرحيل، ليقنع نجله الطبيب بالكف عن محاولات الإحياء القسري، لأن "
الرحلة انتهت"..
(2)
كثيراً ما يشغلني (في صحوي وفي منامي) انطباعي الراسخ عن ذلك اللقاء، وهو قريب الصلة والوجع بانطباع آخر مترسب في أعماقي لآخر مشهد جمعني بالراحل أحمد بهاء الدين، وقد كتبت عنه بالتفصيل من قبل، وفيه: إن بهاء الدين رحل عند قمة الهزيمة وسط الثلوج التي حنطت جيلاً بأكمله. فعندما أتذكر كلماته في آخر حوار بيننا، أتذكر مع الحوار شخصية الهندي الأحمر العجوز، شيخ قبيلة السو الملقب بـ"الدببة العشرة" في فيلم "الراقص مع الذئاب"، حيث يجلس هادئا وسط الثلوج والهزيمة وهو يتدثر بالفراء والحكمة، وينصح الكولونيل جون دنبر بالرحيل وتجنب المواجهة غير المتكافئة. وكان الكولونيل محاربا سابقا في صفوف البيض، ثم اكتسب حياة أكثر اتساعا وإنسانية وصار هنديا بالوعي؛ يحمل اسما جديدا هو "الراقص مع الذئاب".
في لقاء النهايات حدثني بهاء الدين عن انهيار اليقين، وعن التحديات التي تواجه الأجيال الجديدة، مؤكدا أن المعركة لم تعد الدفاع عن ثورة يوليو (1952)، بل صناعة قدر جديد بمفاهيم جديدة لم تتشكل بعد. كان حزينا كأنه يقرأ المأسأة من كتاب القدر، ويدرك أنه لا فكاك من المأزق القادم. وفي خلفية تفكيري كانت صورة الحكيم الهندي العجوز تملأ المشهد، وهو يقعد ساكناً في انتظار مصير يعرفه، ويعرف أنه ليس في صالحه ولا في صالح شعبه، فيما يخرج الوافد الجديد من المشهد لينطلق في المجهول على حصان وحيد يحمله مع حبيبته وقليل من الزاد والماء والأمل، في مصير لا يتماهى مع مصير الجيل المهزوم..
كيف يلتقي في هدوء شبح النهايات وضوء السكينة؟!
كيف يتصالح المضرب مع الكرة؟!
قال بهاء الدين: لا تسأل، فقد تغيرت الأسئلة، وتعطلت الإجابات.. لم يحدثني عن "اختلاط الحابل بالنابل"، وزمن "السداح مداح"، وعن أولئك الذين تبجحوا دون خجل من تاريخ أو أخلاق فمنعوا مقاله اليومي من النشر. لم يقل لي إنه بكى أو غضب أو اشتكى، كل ما فعله أنه أرسل المقال نفسه في اليوم التالي فلم ينشر، فأرسله دون تغيير في اليوم الثالث فلم ينشر فأعاد إرساله.. وهكذا لأكثر من عشرة أيام، لكنه في النهايات لم يستطع أن ينشره لأن مافيا الفساد الإعلامي لا تملك حياء ولا تعرف الخجل، لذلك لم يراهن بهاء على أخلاقها.
لقد فكر صاحب "أيام لها تاريخ" في قوة التاريخ فسجل موقفه، وأوصل مضمون مقاله من دون حبر وطباعة، وكشف جانباً من العلاقات الغامضة بين رجال المال وغيلان
الصحافة. وأتذكر جيدا أن لقائي الأخير مع أحمد بهاء الدين كان قبل شهور من مرضه الطويل ذي الدلالات الرمزية التي تليق بأبطال الملاحم والروايات. لم يقل لي بهاء يومها كل ما ذهبت لكي أسمعه منه، ولم أقل له كل ما أحببت أن أسمعه له، فقد سيطرت النهايات على ما أريد وما يريد..
(3)
لم يكن هيكل نموذجي المفضل في الصحافة والثقافة، وكانت تجربته في العمل وفي الحياة بعيدة عن تقديري وتقدير عدد من أبناء جيلي للمثقف ودوره، وكنت أعتبره "مثقف سلطة"، بصرف النظر عن اتفاقي مع توجهات السلطة أو تناقضي معها في فترتي ناصر والسادات، ولم تتجاوز نظرتي له حدود انبهار الكثيرين بالسيرة والسيجار أكثر من الاتفاق على المسيرة والمسار.
ولم يحدث أن التقيت بهيكل (حتى في اللقاءات الجماعية) حتى اتصل بي ذات نهار من بداية الألفية الثالثة صديقي القديم الأديب يوسف القعيد، وأخبرني معاتباً أن الأستاذ حزين مما كتبته عنه بعد استئذانه في الانصراف عن
الكتابة، وأن أكثر ما أحزنه كلمة "التجاعيد" المذكورة في العنوان.
أذكر أنني كنت أنتقد عوده الأبدي إلى الماضي في حلقات صوتية على هيئة الإذاعة البريطانية، استغرق فيها في سرديات التاريخ من وجهة نظره، من غير وضوح لتصوره عن المستقبل. وكان العنوان يتضمن عبارة "تجاعيد الجورنالجي المنصرف" ونشرته صحيفة الرأي العام الكويتية (الراي حاليا) في صفحتها الأولى. وبعد بضعة أشهر من هذا الموقف دُعيت لأول لقاء مباشر مع الأستاذ هيكل، وتكررت اللقاءات الفردية والجماعية بحكم المتابعة الصحفية، حتى نشرت على لسانه المانشيت الرئيسي لصحيفة الكرامة الأسبوعية ويقول فيه: "أنا خائف من الشارع"، مع نقد لميله الدائم للسلطة، وعدم تقديره لحسابات الشارع. كان "المانشيت" في أوج حراك التغيير بعد عام 2005، وظل موضوعاً لنقاشات متكررة ومتباعدة قبل الثورة وبعدها، تطورت فيها نظرتي لهيكل، وتطورت فيها نظرته للسلطة ورهانه على وعي جديد للشارع، لكن وعيه بالتغيير ظل مشروطا بحسابات الدلوة والضرورة.
بهذا فإن المناقشات المكثفة التي دارت حول هذا الموضوع تصلح لدراسة العلاقة المعقدة بين المثقف والسلطة في مجتمعاتنا. ولحسن الحظ أن جانباً مهما من المناقشات محفوظ عندي بالصوت. وقد كتبت قبل رحيل هيكل مقالين بعنوان "اعتذار متأخر لهيكل"، لإحساسي بأن جانبا من خوفه القديم من الشارع ورهانه على السلطة، لم يكن تزلفاً لسلطة مبارك وتوريث نجله، بقدر خوفه من تأخر الشارع عن السلطة في الوعي بالإدارة ومتطلباتها، وفي مهارات الحركة وشروطها.
(4)
بعد منع نشر مقالاتي في خريف 2015 اتصلت بي السيدة جيهان، مديرة مكتب هيكل.. الأستاذ عاوز يشوفك.. يناسبك امتى؟ وذكرت الأيام والمواعيد الميسرة في أجندتها، وطلبتُ تأجيل الموعد للأسبوع المقبل. ولما ذهبت سألني: ناوي تعمل إيه الفترة الجاية؟
قلت باقتضاب: زي ما عملت بعد خروجك من الأهرام.
قال: هتتفرغ للكتب؟
قلت: غالباً.
قال باقتضاب: بلاش.. الزمن اتغير، الواقع محتاجك أكتر في الاشتباك اليومي، ثم أضاف ضاحكاً: وللا بقيت عجوز منصرف؟!
لم أضحك، ولم أتوقف عند إشارته لمقال "تجاعيد المنصرف"، كنت مهموماً بأكبر مما أتجاوب مع حديثه الداعم نفسيا ومهنياً. وكعادته المهذبة أدرك حالتي وقال بوقار الأستاذ: باختصار قول لي أقدر أساعد ازاي؟
دخلت جيهان لتبلغه بأن المستشار طارق البشري وصل في موعده، فطلب منها الاعتذار له عن الانتظار قليلا، وعاد للسؤال بصياغة محددة: أنا عاوز أساعد ومحتاج أعرف أساعدك ازاي.
قلت له: نبدأ جلسات أول كتاب.
قال: في ذهنك موضوع الكتاب؟
قلت له: انت.
قال: هتقول عني إيه؟
قلت: انت اللي هتقول.. أنا مش محتاج سيرتك المهنية ولا إنجازات رحلتك، أنا محتاج أركز على نقطتين فقط كرأسي الجسر، نقطة البدايات وتفاصيل النشأة والتكوين، ونقطة النهايات وتفاصيل المشاعر ونظرتك العامة للرحلة والحصاد.
قال: ممكن أستقبل المستشار طارق وانت موجود، مفيش أسرار، أنا عارف هيتكلم في إيه، وبعدين نكمل كلامنا.
قلت له: نكمل مرة تانية، لأني اليوم مش في حالة كويسة، ولا أرغب في مزاحمة سيادة المستشار في موعده وموضوعه.
ركز نظره نحوي في صمت وأنا أنهض مستعدا للخروج، ثم وقف وصافحني وأمسك بيدي وهو يخرج معي إلى الباب الخارجي ثم الأسانسير، وانتظر حتى وصل الأسانسير ودخلت، وهو يودعني بابتسامة وإشارة من يده. كانت ابتسامة النهايات وإشارة الوداع، حيث لم نتقابل بعدها وجها لوجه. حدثته مرة واحدة تليفونيا أثناء مرضه، وكنت أطمئن عليه من خلال مديرة المكتب وأحبابه القريبين، وحتى اليوم لا تشغلني إنجازات ومؤلفات هيكل المنشورة، بقدر ما تشغلني نظرته لها، وإحساسه الأخير في لحظة النهايات.
(5)
ذات نهار كنت مستغرقا في شاشة الكمبيوتر داخل مكتبي الزجاجي المطل على صالة التحرير، وعندما رفعت رأسي فوجئت به يمشي ناحيتي بتؤدة مستندا على عكازه، وتابعت خطواته بعيني حتى اقترب من باب المكتب، فوقفت وسعيت للقائه، فإذا به يحتضنني بحرارة وهو يقول: أنا بس سألت عنك، ولما قالوا موجود حبيت أسلم عليك.
دعوته للجلوس قليلاً، وطوال الجلسة لم نقل شيئا غير المجاملات المتبادلة، ثم قال عند النهايات: عندك حق.
قلت مندهشاً: في إيه؟
قال: ما قرأته في مقالك "معتزون لا معتزلون"، ودهشتك لقبولي بما رفضه إدوار الخراط..
غيّرت مجرى الحديث قائلا: أنت صاحب الحق وصاحب الوجع الذي يلازمني منذ قرأت وصفك لأمثالنا بالديناصورات، (كان بقصد المثقف المهدد بالانقراض في واقع أكبر منه).
كان اللقاء الأخير مبهجاً وحزيناً، لأنني لا أنسى أنه جاء ليقبض بضعة عشرات من الجنيهات، وأن مسؤولا في وزارة الثقافة تبجح فأوقف راتبه في الصحيفة التي يكتب فيها لأنه يتقاضى ألفي جنيه ويكتب مقالاً واحدا كل أسبوع!!
لقد استكثرت وزارة الثقافة جنيهاتها القليلة على العظيم علاء الديب صاحب "عصير الكتب"، وبعدها رحل الديب عند لحظة النهايات، مُعَلَقا بين تطلعات وأحزان عبد الخالق المسيري في "زهر الليمون".
وفي نهايات هذا المقال أقتطف فقرة من مقالي في رحيل المثقف الديناصور، مستخدما تعبيراته وكلماته ومشاعره التي تفضي فيها النهايات إلى بدايات جديدة، "فلا بد ما يموت شيء، عشان يحيا شيء" كما قال فارس آخر من فرسان النهايات التي لا تنتهي.. وعجبي.
(6)
برغم كل الأهوال، التي ألفناها بعد ذلك باعتبارها "الحياة"..!
وبرغم صدمة الضياع الكبير، والسقوط المتوالي..!
وبرغم تحول الأرض إلى خرقة مهترئة، غارقة في وحلٍ بغيض الرائحة..!
وبرغم تصاعد الغبار بوقاحة في عين السماء..!
وبرغم تفشي الخوف، والشرود، والغربة، ومستنقعات القار، والجماجم العالقة في أشلاء متحركة، وحطام الأحلام المشوهة، وشظايا النهارات المتكسرة..!
وبرغم تفحم الأشجار.. جُل الأشجار..!
بقت على الأرض.. سنديانة متفردة..
ونجا من المهالك..
ديناصور عجوز..
(∞)
كثيراً ما أشعر في هذه الأيام الكئيبة بوطأة النهايات، لكن هذا لا يعني الاستسلام أو الانتحار، بقدر ما يعني السعي إلى بداية جديدة تعقب كل نهاية لا بد منها. فالنهايات في تعريف الحياة، ليست إلا بدايات جديدة، لا بد أن نفكر فيها ونستعد لها، لنختار الشيء الذي يجب أن يموت لكي يعيش الشيء الذي يجب أن يولد ويحيا..
tamahi@hotmail.com