القضية الفلسطينية: تعددت المؤشرات والاتجاه واحد

ليس حريا بالقضية الفلسطينية أن تفقد خياراتها، وأن تنتظر من مؤتمر دولي أن يقر بحقوق الشعب المحتل منذ 53 عاما والمهجر من أرضه منذ 72 سنة، وليس من أبجديات العمل النضالي الفلسطيني أن ينعدم فيه الفعل الفلسطيني نحو التأثير في تقرير مصيره، وأن يدع لغيره أن يرسم خريطة استقلاله.

هذا الشعب الذي تميز فعله بتغيير المؤشرات وقلب المعادلات، بدءا من ثورة 36 وصولا لثورة 65 ثم انتفاضة 87 وانتفاضة 2000 وعدة معارك في الأردن ولبنان، وبناء المنظمة وإقامة السلطة وإطلاق العديد من الفصائل، يقف اليوم بكل هذا العدم مناشدا العالم شرقه وغربه ليس ضعفا، وإنما حقه بأن يقيم دولته الفلسطينية المستقلة على 22 في المئة فقط من أرضه التاريخية.

هذه الدولة التي يعترضها ضم واستيطان وجدار وتهويد وإغلاق وحواجز وتجريف وتدمير وحصار وانقسام، تلاعبت بها المتغيرات الإقليمية والدولية، ولم تعد أحوالها الداخلية بأفضل حال، بل تسببت وباتجاه واحد بشتات تضحياتها وتشويه صورتها.

يبدو هذا جليا في الأنشطة الدبلوماسية والشعبية المتسارعة، والقائمة حاليا ردا على النوايا الإسرائيلية بضم الأغوار الفلسطينية، في ما يعتبره الإسرائيليون تطبيقا للرؤية الأمريكية التي وصفتها مندوبة واشنطن في مجلس الأمن بأنها اتفاق سلام. هذه الأنشطة يبدو أنها وإن أثرت نسبيا في الموقف الأوروبي، إلا أنها لم توقف السياسات الإسرائيلية الاستعمارية، ولم تزحزح الدعم الأمريكي المنقطع النظير على الأقل على المستوى القريب.

تروي التجربة الفلسطينية أن أيقونة الصمود التي ارتكزت عليها الرواية التاريخية للشعب، أحالت مخططات الاستعمار والتوطين إلى رماد، لكنها لم تعد حاليا بقوتها السابقة، فالانزياح الملفت نحو متطلبات الحياة اليومية بعيدا عن الفعاليات الوطنية والخطابية، بات عنوانا للحياة اليومية للأسرة الفلسطينية.

هذا الصمود الذي برز في مشهد مهرجان الأغوار ومن قبله أريحا، الذي حمل رسالة مهمة وسلط الأضواء على الرفض الدولي والرسمي والشعبي العارم لمخطط الضم؛ لم يمحُ في المقابل وفي اليوم نفسه، مشهد تكدّسِ الشباب الغزي بالآلاف أمام أحد المصانع لنيل فرصة عمل مؤقتة، أو من قبله مشهد توافد العمال يوميا للعمل داخل المستوطنات أو داخل الأرض المحتلة، رافضين الانصياع للدعوات الحكومية المتكررة بشأن انتشار فيروس كورونا.

كل هذا لم يدفع بالفصائل الفلسطينية لوضع يدها على الجرح الغائر، وأن تنظر قريبا في سبيل تبرير أسباب وجودها وإيقاف عذاباتٍ باتت تكلفها الكثير من ذخرها الاستراتيجي، وأن ترمي كل خلافاتها وراء ظهرها لعل إحباط الضم يجمعها.

الضم هو "مربط الفرس" إن سقط ستسقط الصفقة بكل بنودها، وإن أعادت إسرائيل رسم خريطتها بما يشمل 30 في المئة من أراضي الضفة، فليس بعد الضم حرب، ويكون بذلك نتنياهو قد أجاز مرحلة جديدة من مشروع صهيوني لن يوقف غروره إلا تحقيق نبوءة التوراة.

هي وقفة أمام التاريخ، نستحضر فيها تظاهرات بسيسو "1955" وخطابات عرفات "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"، وشعر درويش "كانت تسمى فلسطين صارت تسمى فلسطين"، وكلمات الحكيم "علينا أن نصنع شيئا لشعبنا".

هذا الوقت الذي يتحتم فيه أن تخرج غزة دون انتظار، وأن تشتبك الضفة كيفما تشاء، وأن يقف الداخل موقف الثبات، ولأنَّ الجماهير لن تخرج وحدها، وجب على أحدهم أن يعتلي أكتافهم، وأن يردد شعارات الرفض ليسمع صداها من يعتقد أن المال بإمكانه إخماد ثورة شبت في أمنيات شعب.