كتاب عربي 21

إشكالية العلاقات الإسلامية-الإسلامية: متى الخروج من التاريخ للمستقبل؟

1300x600
تواجه العلاقات الإسلامية-الإسلامية بين فترة وأخرى أزمات جديدة تؤدي لإثارة أجواء الفتنة المذهبية، ويؤدي ذلك إلى استعادة كل الخلافات التاريخية والمذهبية والعقائدية، وتتطور الأمور إلى صراعات أمنية وسياسية، كما شهدنا مؤخرا في بعض المناطق اللبنانية، وكما شهدنا سابقا في العراق وسوريا وباكستان ودول عربية وإسلامية عديدة.

والخطورة في ما يجري أنه عند كل خلاف سياسي أو حزبي أو بين بعض الدول العربية والإسلامية يتم استدعاء كل أشكال الخلافات القومية والعرقية والمذهبية، ويتم تحريض الجماهير بعضها على بعض بحجة الدفاع عن المذاهب الإسلامية أو الشخصيات الدينية والتاريخية. وعندما تتصالح الدول أو القوى الحزبية والسياسية يتناسى الجميع كل هذه الخلافات وتعود الأمور إلى طبيعتها، في حين أن ما جرى التعرض له من قضايا تاريخية ودينية ومذهبية تعود إلى أدراج الملفات لاستعادتها في وقت آخر، وعندما تكون هناك حاجة جديدة لإثارة الخلافات والأحقاد.

كل ذلك يجعلنا نسأل مع عدد من المهتمين بالوحدة الإسلامية وحماية العلاقات الإسلامية–الإسلامية: متى يمكن الخروج من التاريخ ونتوقف عن استعادة خلافاتنا المذهبية والعقائدية والتاريخية عند كل صراع سياسي أو حزبي، أو بين دولتين عربيتين أو إسلاميتين؟ ومتى يصبح الحاضر أو المستقبل هو الذي يحكم العلاقات بين المسلمين اليوم؟

من المعروف أن المسيحيين الكاثوليك والإنجيليين عانوا خلال القرون الماضية من صراعات دينية وعقائدية وسياسية كبيرة، واستمرت بعض الحروب بين الإنجيليين والكاثوليك عشرات السنين، وسميت بعض هذه الحروب: "حرب المئة عام"، و"حرب الثلاثين عاما". لكن معظم هذه الحروب انتهت اليوم، ولا سيما بعد معاهدة وستفاليا عام 1648، والتي أدت إلى توقف الحروب الدينية في أوروبا وقيام الدولة القومية. ولا يعني ذلك نهاية الخلافات الدينية والمذهبية بين الكنائس المسيحية، لكن لم تعد هذه الخلافات محور الصراعات التي اتخذت أبعادا سياسية واقتصادية واستعمارية متعددة.

وقبل عدة سنوات شارك بابا الفاتيكان الكاثوليكي فرانسيس؛ في الاحتفالات التي أقامتها الكنيسة الإنجيلية في السويد بمناسبة مرور 500 عام على بدء الإصلاح الكنسي، وخلال هذه الزيارة، أمّ البابا فرانسيس صلوات طلب فيها "الصفح عن الانقسامات التي تسبب فيها المسيحيون من الطائفتين". وأعلن عن خطوات سيتبعها الزعماء المسيحيون والجماعات المسيحية خلال المرحلة القادمة، من أجل المزيد من التعاون والحوار بعد قرون من الانقسام.

وأما على الصعيد الإسلامي فقد جرت محاولات عديدة للخروج من الانقسام المذهبي والعقائدي والتاريخي، وأهم تلك المحاولات ما جرى منذ نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين، حيث عمد الكثير من العلماء والمفكرين والمصلحين لإطلاق دعوات الوحدة والخروج من الصراعات المذهبية، والاهتمام بمشروع الإصلاح الإسلامي الفكري والسياسي".

ولعل تجربة مؤسسة التقريب بين المذاهب الإسلامية في مصر من أهم هذه التجارب، والتي توّجت باعتراف الأزهر الشريف بالمذهب الجعفري الإثني عشري كأحد المذاهب الإسلامية.

ومن ثم جرت عشرات المحاولات من أجل تعزيز الوحدة الإسلامية، سواء في السعودية أو الأردن أو المغرب أو العراق أو لبنان أو تركيا أو إيران، ومنها ما قامت به منظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، والمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وتجمع العلماء المسلمين، ومنتدى الوحدة الإسلامية، والاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، ومركز المقاصد الإسلامية.

وبموازة ذلك قام عشرات العلماء والمفكرين المسلمين بإطلاق المبادرات الفكرية والعقائدية والتاريخية الوحدوية، من خلال الدعوة للخروج من الخلافات التاريخية والمذهبية والتوحد على أسس جديدة، ومراجعة كل التراث الإسلامي والبحث عن رؤى جديدة لفهم الدين والمذاهب على أساس قاعدة التنوع وقبول الآخر والعيش المشترك ودولة المواطنة، وغير ذلك من المفاهيم الوحدوية.

لكن للأسف ورغم كل هذه الجهود الوحدوية، فإنه عند حصول أي خلاف سياسي أو حزبي، أو عند حصول أي تطور استراتيجي أو حدث كبير في المنطقة وتحصل خلافات حول مقاربته بين القوى السياسية والحزبية، يقوم البعض باستعادة التاريخ مجددا وإعادة كل الخلافات المذهبية والعقائدية والتاريخية على طاولة الصراع، وتنتشر الشعارات المذهبية والخلافية مجددا، وكأن أزمة الخلافة عادت مجددا والصراعات التاريخية تعيش بيننا يوميا.

طبعا لا يمكن إعادة استعراض كل هذه الخلافات وأسبابها وإلى ما أدت إليه من نتائج خطيرة، لكن ألا يحق لنا اليوم أن نطالب جميع القيادات الإسلامية والحزبية والسياسية والمسؤولين في بعض الدول العربية والإسلامية؛ بوقف هذا الانزلاق الخطير إلى إعطاء البعد المذهبي لكل صراع سياسي أو حزبي أو خلاف على السلطة؟

ألم يحن الوقت للخروج من التاريخ والبدء بالبحث والنقاش حول هموم الحاضر والمستقبل والمصالح المشتركة، وكيفية مواجهة التحديات المختلفة؟

هناك دولتان مهمتان في المنطقة وكانت بينهما خلافات تاريخية ومذهبية وعقائدية وسياسية، ولكنهما اليوم تجاوزتا كل ذلك وتقيمان فيما بينهما علاقات سياسية واستراتيجية واقتصادية قوية، وهما إيران وتركيا. وقد أدى التعاون بين هاتين الدولتين إلى تجاوز الكثير من المشاكل والعقبات والضغوط الخارجية، فلماذا لا تتم الاستفادة من هذه التجربة اليوم؟

وهناك دولة أخرى في المنطقة تجاوزت كل إرثها التاريخي والعقائدي الإشكالي، وتحولت إلى جسر للتواصل والعلاقات بين الدول، وهي سلطنة عمان. وقد تكون هناك نماذج أخرى لدول عربية وإسلامية تجاوزت الصراعات التاريخية والمذهبية وأقامت نموذجا للدولة الحديثة، كماليزيا.

فمتى نخرج من الماضي والتاريخ والصراعات المذهبية، ونعمل لقيام دولة المواطنة والتنوع والتعددية، ونعترف ببعضنا بغض النظر عن مذاهبنا وعقائدنا؟ ومتى نبقي خلافاتنا السياسية والحزبية في إطارها الطبيعي، ولا نسقط عليها صراعاتنا المذهبية والعقائدية والتاريخية والقومية؟

إنها مهمة ليست سهلة وتحتاج لجهود كبيرة، ولكن ذلك لا يمنعنا من الدعوة مجددا للخروج من التاريخ إلى الحاضر، وأن لا نبقى أسيرين لكل هذا التاريخ المؤلم.

twitter.com/KassirKassem