قضايا وآراء

ماذا صنع كورونا ببيوتنا؟

1300x600
مذ أنْ أصبحت جائحة كورنا حديث العالم والساعة استوقفني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن؛ إنْ أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"، فخطر ببالي وحي سؤال: لو أن في جائحة كورونا خيرا، فأين يكمن وكيف لها أن تغير الأحوال وما الدلائل على ذلك؟

وقد يبدو من السخافة أن نقوم بتوجيه الشكر لكورونا، ذلك الفيروس القاتل السفاح الفتاك المميت الذي سلب أرواح الآلاف من البشر وتسبب بخسائر فادحة، فأغلق منافذ حركة الحياة وأوقف المصانع والمنشآت وغلَّق الحدود وعلَّق الرحلات، وقتل الآمال المفتوحة في تحسين مستوى المعيشة والحياة، ولكننا لا ندري أي خيرٍ أعده الله لنا، إذا ما توقفنا قليلا وأمعنا النظر وفكرنا بإيجابية، بمعنى التركيز على مكامن القوة والجوانب التي تحسن من نفسيتنا وتفكيرنا، وذلك برفع مستوى السعادة والطمأنينة والتفاؤل، وتعميق الشعور بالثقة وتحسين استقرارنا النفسي، وتعزيز الأمل بالله والقناعة والرضا.

ولو قمنا بإعادة صياغة المشهد من حولنا والنظر إليه من جديد ومن عدة زوايا، سندرك حتماً وبالتأكيد أن هناك حكمة ربانية وتدبيرا إلهيا خفيا محكما لهذا المشهد، يحمل في طياته كل الخير لنا ولمحبينا، وستكتشف أن هناك وجهاً آخر مشرقا لهذه الأزمة، وأن هناك عطايا خاصة تفرد بها كورونا دون غيره، وأنّها ما كانت لأحد سوانا، حينها سيأتي الجواب على السؤال وسنقف شاكرين ممتنين لله عز وجل أولاً، ومن ثم لجائحة كورونا ولما أحدثته من تغيير وتجديد وإصلاح في حياتنا على مستوى الأفراد وعلى مستوى العالم بأسره، ليصبحَ العالم أكثر إنسانية، وعدالة، ومساواة، واتزانا، وصحة.

لقد أطلق كورونا مشكوراً جرس الإنذار والتحذير مدوياً ومنادياً بخطر كبير قد ألمَّ بنا كشعوب عربيه خاصة، وكمسلمين عامة، كما وبعث لنا في الوقت ذاته برسائل حب تحمل في طياتها "دعوة للصحوة"، دعوةً لتحويل المحنة إلى منحة، والأزمة إلى فرصة؛ لقلوب أكثر طمأنينة وأقوى يقينا بأن ما أصابنا ما كان ليخطئنا، وما أخطأنا ما كان ليصيبنا، وأنّ المؤمن في سرائه وضرائه، وفي شدته ورخائه، من خير إلى خير، مفوضين أمرنا إلى الله، مدركين أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأننا عباد الله الذين قال فيهم عز وجل: "من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".. ميزة عظيمة خُصَ بها المؤمن دون غيره ألا فاستبشروا.

إذاً أعزائي دعونا نبحر سويا ونتأمل معا في مواطن الخير التي أحدثها كورونا في حياتنا الاجتماعية، وتحديداً الأسرية. فقد يتفق معي الكثير منكم ويوافقني الرأي بأنه بات من الملحوظ ومن الواضح أنه في الآونة الأخيرة وقبل جائحة كورونا أن العالم كان يشهد أزمة سباق زمني، ونحن نشهد سرعة في اللحاق بهذا السباق، وأن نمط الحياة في العالم بأسره وديناميكيتها باتت تسير وتجري وتدور بشكل فلكي جنوني سريع، ضمن تيارات قوية شديدة السرعة، مستمرة جارفة دون توقف ولا استراحة ولا حتى اتزان..

حالة ألقت بظلالها على البشرية جمعاء، فباتت هي الأخرى تدور دون توقف، تركض وتلهث بسرعة هذا التيار دون تريث أو تفكير بعواقب هذا الجريان، حتى كادت أنفاسنا جميعاً تضيق وتختنق جراء تلك السرعة وذاك الجريان، ظنا منا أننا كأفراد نشكل محور الحياة لأشغالنا وأعمالنا ومصالحنا، وهي تدور حولنا ولا يمكنها الاستغناء عنا أو استبدالنا حتى في حال انتهاء صلاحيتنا لأي سبب كان.

وفي حقيقة الأمر أن الواقع صادم ومؤلم وعكس هذا تماما، فنحن من ندور حول أنفسنا دون توقف دون رحمة بأرواحنا، دون رفق بأجسادنا، ولا حتى إحساس بمعاناة من هم حولنا ممن يدفعون ضريبة وثمن هذا الدوران من أزواجنا وذوينا، دون أن نتعلم متى نرحل وأين نتوقف متى نقول كلمة لا (اعتذر أنا آسف) لن أدور وأجري، لن أركض وألهث، و"لا" لكل ما ومن يكلفنا فوق طاقتنا واحتمالنا حتى لو كنا نحن من نكلف أنفسنا فوق طاقتها.

في هذا الموطن يُبهرنا التوقيت الإلهي، وتدهشنا دقة المقادير، ويُبكينا تكامل التدابير، ‏هنا يتجلى التسخير الرباني ويأتي السيناريو الذي كتبه الله لنا وأخرجه القدر وأعاد توزيع أدواره علينا، فما كان منه سبحانه إلا أنْ أرسل كورونا، فأوقف مشكورا هذا الدوران السريع برمّته وأبطأ من تلك السرعة الجنونية؛ لطفا بنا ورحمة وشفقة على أنفاسنا المتعبة، ورفقاً بأجسادنا المنهكة، وأفكارنا المشوشة، وطمأنينةً لقلوبنا القلقة، وكاد هذا الدوران أن يودي بحياتنا الأسرية، وحياة البعض منا إلى هاوية الطلاق والتفكك والهلاك.

مرت كورونا منذ قدومها منذرة ومبشرة، كاسرة وجابرة، مفرقة وجامعة، قاسية وحانية، فما كان لها إلا أنْ نجحت في دق الأجراس، وتغيير الأولويات، وفرض صياغات جديدة لخطتنا وأولويات مستقبلنا، فوضعتنا جميعاً ووضعت العالم بأكمله في حالة توقف وتأمل في حاضرنا ومستقبلنا، وفي علاقتنا ببارئنا، وفي خيوط نسيج بيوتنا وما لحقوق لنا وما لواجبات علينا.

لقد منحتنا فرصة التعرف على ذواتنا واكتشاف أعظم وأجمل ما فينا، أسوأ ما لدينا وما ينقصنا وما يغنينا، وما غفلنا عنه وما كان من ماضي، فاكتشفنا (يا الله) لأي مدى كنا بحاجة لمثل هذا التوقف الذي أعاد التوازن الصحي والنفسي لنا لبيوتنا. فيا رب إن في تدبيرك ما يغنينا عن الحيل، وفي كرمك ما هو فوق الأمل، وفي حلمك ما يسد الخلل ، وفي عفوك ما يمحو الزلل، فوالله ولو أننا استنفدنا جميع الحيل لإيقاف هذا الدوران ما استطعنا إيقافه سوى برحمة وتدبير خفي من الله، فلك الحمد يا رب.

كما كان للأسرة وافر الحظ والنصيب في الاستفادة من هذا التوقف، فاشتراكنا في سباق الماراثون والركض والدوران بقلوب ضعيفة وصمامات ضيقة وشرايين مسدودة، وأنفاس مثقلة، جعلنا وبعض الأسر نعيش مرحلة اختناق وضيق ونقص أوكسجين الحياة. فعانت الأسرة احتضارا في علاقاتها، كما أوشك هذا السباق أن يعرّضها إلى تصدع، وإلى انهيار لوحدتها الأسرية، وانحلال الأدوار الاجتماعية لأفرادها، وانخفاض مستوى مساهمة الوالدين في التنشئة الاجتماعية لأبنائها، وفي بناء شخصياتهم وتوجيههم ضمن متطلبات الحياة بسبب دورانهم حول أنفسهم وانشغالهم.

فكم من أسرة شكت انشغال أفرادها، وعدم تواجدهم وقلة تواصلهم، حتى أورث فيهم هذا الانشغال موتاً لمشاعرهم، فتوراً بعلاقاتهم، بعداً لأجسادهم، وانقطاعاً لوصلهم وانسجامهم، وتباعداً فكرياً حتى في طريقة تفكيرهم حتى باتت الأنانية عنواناً لحالتهم. ‏

وكم من زوجة عانت من زوجها شهوراً كثيرة، وسنين طويلة عجافا بُعداً لا وصلاً، ضيقاً لا راحة، حزناً لا سعادة، كسراً لا جبراً، خوفاً لا أماناً، بسبب انشغاله الدائم أو سفره المتكرر وغيابه المستمر عن بيته، أيضاً لنفس السبب.

وكم من طفل عاش يتيماً وأبواه على قيد الحياة، فحرم من حضن أبويه، ومن أن يحيا ويعيش حياة نفسية، وروحية سليمة يحصل فيها على النضج الوجداني، فيغدق عليه بالعطف والحنان، ويشبع حباً وإحساساً بالأمن والأمان. حُرم من تقبيل وجنتي والديه قبل النوم وعند الاستيقاظ، فهو لا يكاد يراهما أو يستمتع باللعب بصحبتهما بسبب هذا الدوران.

‏وكم من مراهق ومراهقة فقدوا حاجاتهم الاجتماعية والمكانية والاستقلالية، وحاجتي الطمأنينة والأمان، فلم يجدوا من يساندهم ويلبي احتياجاتهم ويحتويهم، فكانوا فريسة سهلة لغزو فكري ثقافي قذر حاصرهم وأفسد عقولهم، وسيطر على سلوكياتهم فغير مجرى حياتهم.

وكم من مائدة طعام كانت تخلو من أبنائها وأهلها مجتمعين عند أم حنون قد جرت بها السنون وقد أنهكها الشوق والحنين؛ حبا ولهفة لتراهم حولها مجتمعين، وفي بيتها متواجدين.

فما كان من كورونا إلا أن ساهمت بعملية الإنعاش بعد الاحتضار والترميم بعد التصدع، فقامت بتحقيق التوازن النفسي والصحة النفسية، فجعلتنا نستفيق من غيبوبتنا، ونستدرك الأمور من حولنا ونعترف بعيوبنا، ومدى تقصيرنا بحق أنفسنا، وبحق أزواجنا، وأبنائنا، ومن حولنا.

فلم شمل العائلة، وتوحدت الأسرة واجتمعت مجدداً في وقت كدنا أن ننسى فيه جمال التلاقي، ومتعة التواصل الفيزيائي، فخلعنا ثوب الجدية والرسمية وارتدينا ثوب البساطة والليونة، وأزلنا قناع الغضب والعصبية وتحلينا بجمال الصبر والحلم، تخلينا عن القرارات الديكتاتورية والتزمنا الشورى والديمقراطية، وأقلعنا عن عادة التحقيق وابتعدنا عن المراقبة والتدقيق ومارسنا فن التغافل والتطنيش، وأسقيت كل خلية بداخلنا شراب الصبر والرضى، فأُشعل سراج النور لقلوبنا، وأضيئت شموع الحب فينا، وفجرت مشاعر الإحساس بمن حولنا، وعبدت طرق الوصول لبعضنا، وفتحت أبواب الحوار المغلقة فيما بيننا، فأنارت عتمة الفوضى بداخلنا، وروت ظمأ العطشى، وسدت رمق الجوعى منا؛ حباً، ألفةً، وصلاً، وتقديراً لنا.

كما منحتنا هذه المحنة فرصة لتصحيح مفاهيم تقليدية سلبية، وموروثات خاطئة بيئية، وتقبل لعادات جديدة نافعة صحية، كما وفرضت علينا كآباء سلوكيات نقدمها كقدوة، بكيفية اتباع آداب اجتماعية وسلوكيات راقية وأخلاقية، وأتيح لنا وقت لقراءة كتب ما كنا نحلم بقراءتها، ومشاهدة برامج عديدة، وأفلام مفيدة، ومطالعة ألبوم صورنا القديمة، والضحك على أشكالنا الغريبة، والحديث عن طفولتنا وعن ماضينا، استرجاع مغامراتنا، ومواقفنا السعيدة، وقضاء وقت ممتع ومسل مع أبنائنا، وإقامة الصلاة معا، وقراءة القرآن سويا، فأدركنا أنه من الممكن أن يصبح بيتنا مسجداً، وأن تصبح غرفنا مدرسةً. كما أنه بفضل تغلب الابتكار التقني على الحواجز المكانية استطعنا إتمام أعمالنا بنفس الجودة والإنتاجية، ‏فلك الحمد يا الله على تدبيرك لشؤون حياتنا. فاغنم من تلك الاستفادة يرحمك الله.

فلكل متذمر متثقل من اجتماعه بأهله ومن سلوكيات أبنائه، ومن ضجيج أطفاله، ومن ضيق بيته، وقلة رزقه، فكم من بعيد ينتظر بأهله اجتماعا، وكم من عقيم يتمنى لضجيج طفله سماعاً، وكم من بيوت واسعة تضيق بأهلها ذرعاً، وكم من مكسور ينتظر من الله جبراً، فبالله كفاك شكوى ولا تتذمر. قف لحظة وتفكر، وأدرك حكمة الله في هذا الأمر، تدبر واسجد لله شكرا؛ أن أوقف دورانك ورفق بك، وأعانك وجعل لك من بيتك ستراً، ومع أهلك سكناً، ومن قرآنك ربيعاً، فَجُد بما عندك من حب ولا تبخل، واصنع الأثر ولا تكسل، ولهذا الدوران لا تشتاق ولا تعجل، واستمتع بحالك وأبشر، فلعله يحدث بعد ذلك أمراً، فلعل الأيام تمضي وترحل وتبقى ذكرى كورونا هي الأجمل، ولعل ما أصابنا خير.

فيا من دعوت الله في جوف الليل تهجداً؛ طلبا لراحة من ضيق في الصدور قد أثقلا، ومن تعب في الأجساد قد تمكنا، ودمع في المقلتين قد سكنا، ها قد أدركك الجواب واستجيبت دعواك.

لأنه وحده الله من يبعث الأنس للأرواح المبعثرة، وحده الله من ينزل السكينة على الضمائر الملتهبة، وحده الله من يلملم شعث القلوب، وحده الله من ينهض الأرواح المتعثرة، وحده الله من يسدل ستار الطمأنينة على الأنفس، وحده الله من ينير لك ما أظلم في فوضى الحياة.

فضع قدميك على عتبة التسليم وتعلم ألا تتعجل في دعواتك، تقول دعوتها فلم تأتِ، دعوتها فلم تُقبَل! كيف كنت تعجَلُ لها وقد كان لها مُيَسّر؟ وكيف بالغت في قلقك وقد كان لها مُدَبّر!

فيا الله، علّمنا كيف نكون عبادا راضين سعداء، ومُمتنين مُبصرين لخَفّي العطاء، وعبادا شاكرين لك ذاكرين حتى آخر نفس، ولا تجعلنا يا الله من الغافلين اجعلنا يا الله من أهل الصّراط المستقيم أولئك الذين أنعمت عليهم، فحفظوا نعمتك وأحسنوا شكرك وكانوا من عبادك الصالحين.