يذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" نسب الشافعي، فيقول: هو الإمام العالم أبو عبدلله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بين عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، القرشي المطلبي.
أخذ الفقه عن مسلم بن خالد عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما عن جماعة من الصحابة، منهم عمرو بن علي وابن مسعود وزيد بن ثابت.
اتسم المناخ الفكري زمن الشافعي بتنافس بين مدرستي الحديث والرأي، في وقت كان فيه ثمة خلاف حول القياس.
ومع أن الشافعي اعتمد القياس، إلا أنه كان منافحا عن مدرسة الحديث، وينقل ابن كثير عن البويطي قوله: سمعت الشافعي يقول: عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صوابا، ومن شعره في هذا:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وساوس الشياطين
يقول محمد عابد الجابري إن الحديث كان يتضخم بالوضع تحت ضغط الحاجة إلى تغطية المسائل المستجدة واقعيا، والتي كانت تغذي الفروض النظرية وتبررها، وكان الرأي يتضخم هو الآخر بالذهاب بعيدا عن الفروض النظرية تلك، والعدول أحيانا عن استيحاء النصوص وسيرة السلف إلى الاستحسان العقلي المحض.
وأمام هذا الوضع كان لا بد من تأسيس البحث على قواعد يراعيها الجميع تجعل حدا للحاجة إلى وضع الحديث، وتقف بالرأي عند حدود معينة، وهي المهمة التي تصدى لها الشافعي.
وكان على الشافعي بداية توضيح مفهوم ومعنى البيان لفهم معاني القرآن الكريم، حيث يذكر في كتابه الرسالة:
البيـان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصـول
متشعبة الفروع، فأقل مـا في تلك المعاني
المتشعبة أنهـا بيـان لمن خـوطب بهـا ممن
نزل القرآن بلسانه، متقـاربة الاستواء عنده
وإن كـان بعضهـا أشد تأكيد بيـان من بعض،
ومختلفة عند من يجهل لسان العرب.
غير أن هذا التعريف ليس كافيا، ويتطلب الأمر توضيحا وتفصيلا، وهنا يذهب الشافعي إلى تحديد أنواع البيان في كتابه "الرسالة"، وهي عنده خمسة معان أو أوجه:
1ـ ما أبانه الله لخلقه نصا: ما هو ظاهر بشكل واضح وجلي في النص الديني ولا يحتاج إلى أي تأويل، مثل فرائض الصلاة والصيام والزكاة والحج.
2ـ ما دل القرآن الكريم على أصل فرضه، وبينت السنة النبوية كيف يكون وما يتبع ذلك الفرض من سنن: الوضوء عند الصلاة، وبالغسل عند الجنابة.. إلخ.
3ـ يشبه السابق حيث كان أصل الفرض في القرآن وجاءت السنة النبوية ببيان كيفيتهما: مثل عدد الصلاة والزكاة ووقتها.. إلخ.
4ـ ما سنه النبي مما ليس لله فيه نص حكم، أي ما سكت عنه القرآن وتم توضيحه من قبل النبي.
5ـ ما فرض الله على عباده الاجتهاد في طلبه.
وفي هذا الوجه الأخير للبيان، يحصل الاجتهاد بناء على آلية فكرية محددة هي قياس ما لم يرد فيه نص على مثال سابق يضبطه نص أو خبر أو إجماع.
وبناء عليه، فقد حدد الشافعي أصول الفقه في أربعة جوانب: الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، جامعا بذلك بين أصول أهل الحديث وأصول أهل الرأي.
إن هذه القواعد الأربعة حدت من تضخم الحديث وتضخم الرأي في آن واحد، وهكذا، يكون الشافعي وفقا للجابري، قد وجه العقل العربي أفقيا بربط الفرع بالأصل، وعاموديا، بربط اللفظ بأنواع من المعاني، والمعنى الواحد بأنواع من الألفاظ.
بعد أن تحدث الشافعي كفاية عن الكتاب والسنة، انتقل إلى بحث مسألة الإجماع والقياس:
1ـ الإجماع
يعتمد الشافعي في كتابه "الرسالة" صيغة السؤال والجواب بين متحاورين لإيضاح رؤيته وتقريب المسائل.
لقد بين أن ما اجتمع الناس عليه، وذكروا أنه حكاية عن الرسول، فهو عن الرسول، ويكن عندئذ العمل بالسنة لا بالإجماع، وأما ما لم يحكوه عن النبي، فيحتمل أن يكون حكاية عنه ويحتمل غير ذلك، وهذا لا يجوز أن يعد حكاية لأنه غير مسموع، وما دام لم يسمع فلا يجوز حكايته، وقد فضل الشافعي الاحتمال الأول.
واستند الشافعي في ذلك على دليلين: أحدهما حديث ابن مسعود، والثاني عن سليمان بن يسار عن عمر بن الخطاب، أن النبي أمر بلزوم الجماعة.
سأل أحدهم الشافعي: ما معنى أمر النبي بلزوم جماعتهم؟
الشافعي: لا معنى له إلا واحد.
السائل: فكيف لا يحتمل إلا واحد؟
الشافعي: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان فلا يقدر أحد أن يلزم جماعة أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين، والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى لأنه لا يمكن ولأن اجتماع الأبدان لا يصنع شيئا، فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليهم جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.
ويتابع الشافعي: ومن قال بما تقول به جماعة المسلمين فقد لزم جماعتهم، ومن خالف ما تقول به جماعة المسلمين فقد خالف جماعتهم التي أمر بلزومها، وإنما تكون الغفلة في الفرقة.
2ـ القياس
يبين الشافعي بداية أن القياس ليس قرآنا ولا سنة ولا إجماع، لأنه لو كان واحد من هؤلاء لكان حكما بها، لا بالقياس.
والشافعي لا يفرق بين القياس والاجتهاد، فهما اسمان لمعنى واحد، والمسلمين بحتاجة للاجتهاد / القياس.
سأل أحدهم الشافعي: فمن أين قلت؟ يقال بالقياس فيما لا كتاب فيه ولا سنة ولا إجماع، أفا القياس نص خبر لازم؟
الشافعي: لو كان القياس نص كتاب أو سنة قيل في كل ما كان نص كتاب: هذا حكم الله، وفي كل ما كان نص السنة: هذا حكم رسول الله، ولم نقل له قياس.
السائل: فما القياس؟ أهو الاجتهاد؟ أم هما متفرقان؟
الشافعي: هما اسمان لمعنى واحد.
السائل: فما جماعهما؟
الشافعي: كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد قياس.
السائل: أفرأيت العالمين إذا قاسوا، على إحاطة هم من أنهم أصابوا الحق عند الله؟ وهل أن يسعهم في القياس؟ وهل كلفوا كل أمر من سبيل واحد أو سبل متفرقة؟ وما الحجة في أن لهم أن يقيسوا على الظاهر دون الباطن؟ وأنه يسعهم أن يتفرقوا؟ وهل يختلف ما كلفوا في أنفسهم، وما كلفوا في غيرهم، ومن الذي له أن يجتهد فيقيس في نفسه دون غيره والذي له أنت يقيس في نفسه وغيره؟
الشافعي: العلم من وجوه: منه إحاطة في الظاهر والباطن، ومنه حق في الظاهر، فالإحاطة منه ما كان نص حكم لله، أو سنة لرسوله نقلها العامة عن العامة.
وعلم الخاصة سنة من خبر الخاصة يعرفها العلماء.
وعلم إجماع، وعلم اجتهاد بالقياس على طلب إصابة الحق، فذلك حق في الظاهر عند قايسه لا عند العامة من العلماء، ولا يعلم الغيب فيه إلا الله.
وإذا طلب العلم فيه بالقياس فقيس بصحة، أيتفق المقايسون في أكثره، وقد نجدهم يختلفون.
والقياس من وجهين: أحدهما أن يكون الشيء في معنى الأصل فلا يختلف القياس فيه، وأن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبها فيه، وقد يختلف القايسون في هذا.
يقول سعيد البوسكلاوي إن القياس لدى الشافعي يتسم بمرونة كبيرة في التصور وفي التطبيق، ينسحب على النص كما ينسحب على الواقع، ولعل من أكبر مظاهر هذه المرونة مطابقته بين القياس والاجتهاد والدلالة والتأويل.
ينهي الشافعي كتابه الرسالة بحوار بينه وبين سائل:
سائل: فقد حكت بالكتاب والسنة، فكيف حكمت بالإجماع ثم حكمت بالقياس فأقمتهما مع كتاب أو سنة؟
الشافعي: إني وإن حكمت بهما، كما أحكم بالكتاب والسنة فأصل ما أحكم به منهما مفترق.
السائل: أفيجوز أن تكون أصول مفرقة الأسباب، يحكم فيها حكما واحدا؟
الشافعي: نعم، يحكم بالكتاب والسنة المجتمع عليها، الذي لا اختلاف فيها فنقول لهذا حكمنا بالحق في الظاهر والباطن، ويحكم بالسنة قد رويت من طريق الانفراد لا يجتمع الناس عليها فنقول: حكمنا بالحق في الظاهر، لأنه قد يمكن الغلط فيمن روى الحديث، ونحكم بالإجماع ثم القياس، وهو أضعف من هذا ولكنها منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود.
ويذكر علي سامي النشار في كتابه مناهج البحث عند مفكري الإسلام أن مؤرخي علم الأصول أجمعوا على أن أول محاولة لوضع مباحث الأصول كعلم كان مع الشافعي، ولم يكن قبله محاولات لوضع منهج أصولي عام يحدد للفقيه طرائق يسلكها في استنباط الأحكام.
ويعود هذا الإجماع بين مؤرخي علم الأصول إلى سببين:
1ـ أقدم ما وصل إلى المؤرخين مكتوبا عن المنهج الأصولي هو رسالة الشافعي.
2ـ براعة وضع المنهج عند الشافعي وإحاطته بجميع نواحي الأصول، جعلت من العبث على اللاحقين له البحث عن مناهج أخرى سابقة على منهج الشافعي.
وكان المنهج الأصولي قبل الشافعي يعتمد على طريقة إقامة الأصول على الفروع، فكان بجانب كل فرع أصله الفقهي، أما مع الشافعي فقد قلب الأمر، حيث أقام المنهج على قاعدة إقامة الفروع على الأصول.
كتب فخر الدين الرازي في كتابه مناقب الشافعي:
كـان الناس قبل الشـافعـي يتكلمـون فـي
مسائل أصول الفقه ويستدلون ويعترضون،
ولكن ما كـان لهـم قانون كلـي مرجوع إليه
فـي معرفـة دلائـل الشريعـة وفـي كيفيـة
معـارضتهـا وترجيحهـا، فاستنبط الشـافعي
علـم أصول الفقه، ووضع للخلق قانونا كليا
يرجـع فـي معرفة مراتب أدلـة الشرع إليه.
كيف انتقلت الفلسفة من اليونان إلى العالم الإسلامي