قضايا وآراء

فساد القضاء مؤذن بنهاية الدول!

1300x600
القضاء هو مؤسسة الشعب الأولى، التي يأوي إليها لحفظ إنسانيته ورعاية حقوقه، وصون كرامته، وهي التي تشعره بهيبة الدولة، التي يعيش في كنفها، وبالتالي تجعله يتمسك بمواطنته الحقة، وتدفعه للتمسك بوطنه ووطنيته.

والدول الحديثة المستقلة الناهضة، تؤسس في العادة قضاءً مستقلاً، كي يحفظ استقلالها، ويؤسس لطمأنينة شعوبها، وإرساء موازين العدل والحق، ومحاصرة الباطل، ومحاربة الظلم ومجابهته، لأن دوام الدول واستقرارها، ما رفرفت في سمائها رايات العدل والمساواة. فالعدل، كما قالوا، أساس الحكم، وفي ظله تشهد ازداهاراً وتطوراً وتقدماً في كل مناحي الحياة، فحياة الأمن تفجر الطاقات والمواهب، وتستفز الهمم العاليات، وتستنفر الجمع في التنافس في البناء والعطاء.

فهو (أي القضاء) من الأمور الأساسية، التي تسعى الدول المستقرة، والأنظمة الحقيقية لتثبيت أركانه، وتعزيز مكانته، وتأهيل رجاله وفرسانه. فهو قلعة الوطن، والركن الشديد، الذي يحفظ الوطن والنظام والمواطن جميعاً على حد سواء.

واختلال موازين القضاء، يعني اختلال موازين استقرار الوطن والمواطن، مما يؤدي في النهاية لاختلال موازين ثبات أي نظام، وسرعان ما يفقد شرعيته بالوجود، والتي لا يمكن أن ينالها إلا من خلال نظام قضائي، قائم على قواعد العدل والمساواة التامة، بين جميع أبناء الوطن الواحد.

وفي حال اهتزاز صورة القضاء، وفساد بعض أجزائه، فإن هذا يؤدي إلى ختلال صورة النظام، وذهاب هيبته، وربما دعا إلى الخروج عليه، مع غياب العدل والحق، وكثرة انتشار صور الظلم والمحسوبية، فإن الأنظمة في هذه الحالة، تلجأ إلى ما تحاول من خلاله تثبيت سلطانها، فلن تجد أمامها إلا اللجوء للحلول الأمنية، بقهر الناس وجبرهم، والاستبداد بحكمهم، وبدل أن تعمد لإصلاح جهازها القضائي، تحاول للأسف أن تخضع رقاب مواطنيها للتسليم للعدالة المشوهة، والظلم المقنع بأحكام قضائية فاسدة.

وهذا يزيد من سوء الأحوال، ويفاقم من الشكوى والتذمر، ويرفع منسوب الخوف والقهر، المصحوب بفقدان عناصر الأمن والأمان. وبهذه الحالة، تكون العلاقة بين النظام والشعب متوترة، قائمة على التوجس والخوف، وسوء الظن، وهي أجواء خانقة قاتلة، لكل أنواع الحياة، بصورها الصحيحة.

وفساد القضاء يعني بالضرورة، كما أشرنا، انتشار الظلم، وغياب العدل، وكلاهما مما تهلك بهما الدول، وتفسد الأنظمة، وتسوء الأحوال، وتعم البلوى. وقد ذكرها ابن خلدون، رحمه الله، في مقدمته الشهيرة، المعروفة بمقدمة ابن خلدون، بقوله: "فساد القضاء يفضي إلى نهاية الدول"، وقوله الآخر: "الظلم مؤذن بخراب العمران".

نعم، فساد القضاء يعني فساد الحكم، فساد السياسة، فساد الاقتصاد والاستثمار والتجارة، فساد التربية ومحاضنها والمربين، فساد المجتمعات، وضياع الأخلاق، وتفكك الأسر، وبمعنى أدق فساد القضاء منبع كل شر وفساد، لأنه الجهة التي يفترض فيها صون الحقوق، وحماية الناس، وحماية ممتلكاتهم وأعراضهم، وإقامة ميزان العدل والحق، فإن فسد وفقد مكانته وهيبته، وغدا مرتعاً للظلم والباطل، والمحسوبية والرشوة، فإن هذا مدعاة لفساد غيره، من مؤسسات الدولة وأجهزتها، فمن أمن عواقب القضاء ومحاسبته أساء في وظيفته، واستغلها استغلالاً بشعاً، ما دام أن ثمن القاضي معروف، ومن السهل أن تشتريه بدراهم معدودات، وما أبخس من كان ذا ثمن بخس، وكل ثمن يدفع بدل القيم والمبادئ، هو ثمن بخس، وإن عظم.

وفساد القضاء من فساد النظام السياسي، فالنظام السياسي الفاسد، يبحث عن قضاء فاسد مثله، كي يغطي على فساده، ويبرئ ساحته، ويخلي طرفه من أي تهمة، ومن خلال الواقع المعاش، فإن القضاء في كثير من الأنظمة العربية، شاهد زور للأسف، الأمر الذي أحبط الناس وأيأسهم، وأوصلهم إلى قناعة استحالة نيل حقوقهم من خلال اللجوء للقضاء.

فغالباً ما تزور الانتخابات برعاية المؤسسة القضائية، وتباع مقدرات الوطن، وتخصخص مؤسساته، بصفقات تجارية فاسدة، وبرعاية المؤسسة القضائية أيضاً، فكيف لك أن تحاكم فاسداً في مؤسسته القضائية؟

ومن أجمل صور مجالس القضاء المستقل النزيه، ذلك المجلس الذي ضم خليفة بحجم علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومواطناً من عامة الشعب، في نزاع شخصي، وأجمل قرارات القضاء النزيه المستقل، ذلك القرار الذي حكم بخروج الجيش المسلم الذي فتح مدينة ودخلها، وقد تجاوز الأسس المتبعة في ذلك.