شتّان بين من يُقبِلُ بوجهه وقلمه على شعبٍ لم يكن إلّا في مقدّمة الصّفوف كرما وجودا بالدّم والمال والموقفِ لأجل فلسطين وأهلها، وبين من يدورونُ مع الحاكم الذي يقول للصّهاينة: "هَيتَ لكم" حيثُ دارَ، وينقلبون معه حيثما انقلب، ويتصهينون مثله كلّما أوغل في التّصهيُن؛ فإنّ مديحَ الشّعوب (واللهِ) رفعةٌ وكرامةٌ، والتّطبيلَ للطّغاة المتصهينينَ خسّةٌ ونذالة.
إنّ الوقوفَ على بعضِ شمائلِ وأفعال الشّعب السّعوديّ اليوم، لا سيما في ما يتعلّق بموقفه من فلسطين، ضرورة يفرضُها إحقاقُ الحقّ، والذبّ عن شعبٍ تُسيءُ له باسمه مِزقةٌ غريبةٌ عن التّاريخ والحاضر، ويحاول شيطنتَه فريقٌ يظنّ أنّه يُشَيطنُ فلسطينَ وأهلها وقضيّتها!!
فالشّعب السّعوديّ ليس هو الذّباب الالكترونيّ القابع خلف الشاشات ينفثُ سمومه وأحقاده؛ خدمة لمن قرّروا تحويل قِبلَتهم الأولى من المسجد الأقصى إلى الكنيست، ونبذوا مكّة المكرّمة وراء ظهورِهم ليولُّوا وجوههم شطرَ "تل أبيب".
بل كان الشّعبُ السّعوديّ منذ اللحظة الأولى التي نهش فيها الصّهاينةُ جسدَ أمّتنا؛ سربا من النّحلِ الذي يُنكي عدّوه ويلسعُ خصمَه ويمنحُ أهله عسلا صافيا سائغا لذوي الألبابِ فيه شفاءٌ لما في صدور المؤمنين.
الشّعب السّعودي هو يحيى بن حمان الشهراني؛ ابن مكّة المكرّمة، وإبراهيم عبد الله ياسين؛ ابن المدينة المنوّرة، وعبد الرحمن بن عبدالله المطيري؛ ابن الرّياض، وعبد الله خفير القرني؛ ابن أبها، وعبد الله جعفر الشهري؛ ابن الطّائف، وعبد الله محمد الطاسان؛ ابن جدّة، وإبراهيم علي جيزاني؛ ابن جيزان، وأحمد سعيد الزهراني؛ ابن زهران، وعلي محمد مرعي؛ ابن عسير، وفرج ناصر المامي؛ ابن نجران، ومسفر محمد عوضة الشمراني؛ ابن شمران، وأحمد عطيّة الزهراني ابن حائل، ومسفر محمد أحمد الشمراني؛ ابن بيقة، وفايز علي فايز القرني؛ ابن القرن، وسفر عساف محمد؛ ابن بيشة، وسيف الوقيت خلف؛ ابن الرّس، وعبد الرحمن رافع العمري؛ ابن النّماص، وسعد علي الشهري؛ ابن بني شهر، وجمعان عايض الزهراني؛ ابن الظّفير، ومضحي خلف الدوسري؛ ابن قربة، وجدعان مجيد الرّويني العنزي؛ ابن عنيزة.
هل تعرفون من هؤلاء؟! إنّهم سعوديّون من ضمن أكثر من مئةٍ وسبعين سعوديّا استشهدوا على أرض فلسطين ودفنوا فيها وهم يحاربون قيام الكيان الصّهيونيّ الغاصب عام 1948م.
هؤلاء الشّهداء الذين يتوزّعون على كلّ المدن السّعوديّة مبذورون في أرض فلسطين منذ أكثر من سبعين عاما.. هم الشّعبُ السّعوديّ، وهم هويّة تلكَ الأرض الممتدّة على خارطة القهر، وكلّ واحدٍ منهم هو عنوان ثأر أهله ومدينته وعشيرته وبلدته مع هذا الكيان المجرم.
أكثر من 170 شهيدا بدمائهم وقبورهم في الأرض المباركة التي يغبطهم عليها ملايين المسلمين؛ يدحضون كلّ ما يروّجه هذا الذباب الوضيع من أنّ الصّهاينة ما أراقوا دما سعوديّا فلماذا نعاديهم؟!
أكثر من 170 شهيدا يتوزّعون على امتداد خارطة فلسطين لو بُعثوا من قبورهم الآن فقيل لهم ماذا تتمنّون، لقالُوا أن نستشهد من جديدٍ في سبيل الله تعالى دفاعا عن المسرى والأقصى وندفن تارة أخرى في فلسطين.
هؤلاء هم الشّعب السّعوديّ الذي لو ارتخت القبضة التي تحول بينه وبين الذّود عن القدس والمسرى بروحه ودمه، لرأيتَ من البطولة والفداء والإقدام والتّضحية ما تخشع له الأرض وتخجل منه الجبالُ الرّاسيات.
والشّعب السّعودي هو العلماء والدّعاة الذين يذوبون عشقا وشوقا إذا ذكرت فلسطين؛ فكان جزاؤهم الاعتقال والزنازين، ولو سألتَهم وهم في زنازينِهم يعاينون القهرَ ويعانونَ الأذى: أين قلوبكم وأرواحكم؟! لما تردّدوا إذ يقولون لك: قلوبنا في الحرمين وأرواحنا تلفُّ المسرى الأسير مثلنا.
والشّعب السّعوديّ هو الذي قال في وصفه عبد الرّحمن الكواكبي عام 1899م قبل أن يتحدّث عن صفات العرب عموما، وهو الخبير بطبائع النّاس لا سيما في عصور الاستبداد والقهر:
"عربُ الجزيرة مُستحكمٌ فيهم التخلُّقُ بالدّين، وعربُ الجزيرة أعلم المسلمين بقواعد الدين؛ لأنهم أعرقُهم فيه، ومشهودٌ لهم بأحاديثَ كثيرةٍ بالمتانَة في الإيمان. وعربُ الجزيرةِ أكثرُ المسلمينَ حرصا على حفظِ الدّين، وتأييدِه والفَخَار به؛ خصوصا والعصبيّة النبويّة لم تزل قائمة بين أظهرهم. وعربُ الجزيرةِ أقدَرُ المُسلمينَ على تحمّل قشف المعيشة في سبيلِ مقاصدِهم، وأنشَطُهُم على التّغرُّب والسّياحات، وذلكَ لبُعدِهم عن التَّرفِ المُذلِّ أهلَه، وعربُ الجزيرةِ أحفَظُ الأقوامِ على جنسيّتهم وعاداتِهم فهم يخالطون ولا يختلطون. وعربُ الجزيرةِ أحرصُ الاممِ الإسلاميّة على الحريّة والاستقلال وإباء الضّيم".
ولأنّ هذا الشّعب يزدان بكلّ هذا الذي قاله الكواكبيّ بل أكثر؛ كان الأسبق بذلا وعطاء لأجل المقاومة في فلسطين في مواجهة الكيان السّرطانيّ الذي يتهدّد الأمّة كلّها. فالبرهانُ على صدق انتمائه للإسلام وتغلغل الإيمان في قلبه لم يكن شعاراتٍ تُرفَعُ فحسب؛ بل كان مسابقتَه وسَبْقَه بالبذلِ والجودِ بلا منٍّ ولا أذى.
والشّعب السّعوديّ كان مبادرا على الدّوام قبل أي نظامٍ حاكمٍ؛ فلم ينتظر إذن خادم الحرمين أو توجيهات وليّ الأمر ليبذلَ من أجل فلسطين، فأمرُ الله تعالى عندَه مقدّمٌ على كلّ أمر، وتوجيه الوحيّ أسبقُ في نفسِه وقلبِه من توجيه المخلوق.
وهذا الذباب المتصهين، سواءٌ في وسائل التّواصل الاجتماعيّ أو مسلسلات رمضان التّطبيعيّة، أبعد ما يكون عن هذه الفضيلة؛ فكم يحاول أن يوهم المتلقّي بأن الشّعب السّعوديّ يمنّ على الفلسطينيين إنفاقهم لأجل فلسطين، ويعلن ندمه على هذا الإنفاق. وإنّي لأجزمُ أنّ كلّ الباذلين من هذا الانحطاط براءٌ، كما أجزم أنّ هؤلاء الذين يرفعون أصواتَهم النّشاز بهذا الإسفافِ ما أنفقوا يوما لأجل فلسطين ولا لأجل غيرها، فالفضائلُ لا تعرفُ إلى نفوسِهم وجيوبِهم طريقا.
فالشعب السّعودي هو الذي ما فتئَ يعلن بفِعَاله قبل مقالِه، وبدمه قبل شعاراته، وببذلِه قبل كلامِه؛ بأن فلسطين هي أمّ القضايا عنده كانت وما زالت وستبقى؛ أمّا الذين أطلقوا الوسوم المسمومة والهاشتاغات الرّخيصة ومنها "فلسطين ليست قضيتي" فلا والله لا ينتسبون إلّا لبني صهيون فكرا وولاء، وإن لبسوا العباءة واعتمروا الغترة على رؤوسهم الفارغة.
يحاول المتصهينون اليوم أن يقنعوا النّاس أن الشّعب السّعوديّ قد غيّر موقفه من فلسطين، وتحوّل قلبه عنها، وغدا لها مبغضا، ولأهلها قاليا، ولقضيّتها شانئا، ولكنّ هذا الجهد الذّبابيّ لا ينطلي إلّا على الجهلة والأغبياء، ولا يردّده إلّا العملاءُ أو الحمقى؛ فلو أنّك جرحتَ نخلة في القصيمِ أو الإحساء أو حائل لسالت أعذاقُها بحبّ فلسطين، ولو أنّك أصختَ السّمع إلى صحارى الجزيرة لسمعتها تردّد أشواق الشّعب السّعودي كلّه للصلاة في رحاب الأقصى، مهلّلين مكبّرين محرّرين لا مطبّعين خاذلين.
وإنّه لا يُفرِحُ هذا الذّباب المتصهين شيءٌ أكثر من أن يرى أنّه نجحَ في إحداث معركةٍ كلاميّة أو إعلاميّة بين الشّعب السّعوديّ والشّعب الفلسطينيّ بل وشعوب الأمّة جمعاء، ولا شيءَ يغيظه أكثر من معاينته فشل مسعاه، وخيبة رجائه، ونقيض رغبته؛ بأن يرى أهل السّعوديّة وأهل فلسطين يغمرونَ بعضهم بالحبّ والألفة والأخوّة، ولا يغيظه شيءُ أكثر من إماتة ما يريدُ الذّباب إثارتَه من نعراتٍ وفتنٍ وقناعاتٍ باطلةٍ لتمريرِ مخطّطه التطبيعيّ؛ فأغيظوا ذبابَ الصّهاينة يرحمكم الله.
فتح الطريق لصفقة تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل؟!
السلطة الفلسطينية وحرصُها على علاقاتها مع السعودية