جذب "صابون نابلس" شهرة كبيرة في عصره الذهبي دفعت كوكب الشرق أم كلثوم وموسيقار الجيل محمد عبد الوهاب للدعاية لهذا النوع من الصابون ومدحه.
حتى وقت قريب، استحوذت كبرى العائلات الثرية (المدنية) على مصانع الصابون الرئيسية في نابلس، مثل عائلات الشكعة وطوقان وكنعان، وكانت صناعة الصابون القطاع الاقتصادي السائد في المدينة؛ فامتلاك مصنع للصابون كان رمزا للثروة، والوجاهة والتمدن.
وبحسب ورثة هذا "الكار" يرجع تاريخ صناعة الصابون في نابلس إلى أكثر من ألف عام، مستدلين على ذلك بالكثير من الكتابات التي دونها الرحالة والمؤرخون القدماء ومنهم شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري "المقدسي"، وتحدث عن صناعة الصابون، وقال إنه كان يصنع في المدينة ويحمل إلى سائر البلاد.
وكان يرسل الصابون إلى دمشق ليستخدم في المسجد الأموي، كما كان يصدر إلى العديد من البلدان وجزر البحر الأبيض المتوسط.
وفي زمن الصليبيين حظيت نابلس بمكانة هامة لشهرتها بصناعة الصابون؛ وأصبحت هذه الصناعة حكرا على الملك، لا يسمح بمزاولة الصنعة إلا بموافقة ملك "بيت المقدس" مقابل مورد مالي دائم من أصحاب المصانع.
ولم يكتف الصليبيون بذلك بل اجتهدوا في نقل الصنعة إلى أوروبا، وتأسست مصانع الصابون في مرسيليا وكانت هذه المصانع تحضر الصابون بطريقة مشابهة لطريقة تحضير "الصابون النابلسي".
وفي القرن الرابع عشر تطورت صناعة الصابون بشكل كبير في نابلس بعد تصديره إلى دول الشرق الأوسط وأوروبا، وقيل وقتها أن الملكة إليزابيث الأولى أشادت بهذا النوع من الصابون، وفي القرن التاسع عشر الميلادي شهدت هذه الصناعة في نابلس توسعا كبيرا حتى أصبحت من أهم مراكز صناعة الصابون في بلاد الشام والعراق، وفي عام 1907 بلغ عدد المصانع 30 مصنعا تنتج قرابة 5000 طن سنويا، وكانت نابلس وحدها تنتج أكثر من نصف إنتاج فلسطين من الصابون.
في زمن الصليبيين حظيت نابلس بمكانة هامة لشهرتها بصناعة الصابون؛ وأصبحت هذه الصناعة حكرا على الملك، لا يسمح بمزاولة الصنعة إلا بموافقة ملك "بيت المقدس" مقابل مورد مالي دائم من أصحاب المصانع.
ساهمت وفرة إنتاج زيت الزيتون في توفير بيئة مناسبة لصناعة، كما ساعد انتشار الحمامات التركية العامة في المدينة في استمرار هذه الصناعة وزيادة الطلب عليها، وارتبط "الصابون النابلسي" قديما بالحمامات العامة، إذ كان العامل ينتهي من عمله مساء ويشتري قطعة من الصابون ويذهب إلى أحد الحمامات ليغتسل.
يتكون "الصابون النابلسي" من: زيت زيتون بنسبة 82% تقريبا، والماء والملح ورماد نبات الشيح كمادة قلوية، وقد استبدل استخدام المادة القلوية فيما بعد بمادة (هيدروكسيد الصوديوم)، ومن ثم يتم خلط المزيج في أوعية نحاسية سميكة وعلى درجات حرارة عالية لتتم عملية "التصبن". وبعد اكتمال عملية "التصبن"، يترك هذا المزيج ليبرد ثم فرده على الأرض حتى يتماسك وبعدها يتم تقطيعه يدويا.
وحملت المصابن أسماء: "المصري"، و"الرنتيسي"، و"كنعان"، و"الشكعة"، و"النابلسي" و"فطاير"، وكانت تعمل في أحياء نابلس العريقة كالحبلة والياسمينة والغرب والقريون والشيخ مسلم.
كانت المصانع، في ذروة إنتاج الصابون في نابلس، تحمل أسماء تجارية وشعارات مطبوعة على ورق تغليف الصابون. وكانت هذه العلامات التجارية، في الغالب، رموزا أو أسماء حيوانات؛ منها مثلا: "المفتاحين"، "الجمل"، "النعامة"، "النجمة"، "البقرة"، "البدر" و"الأسد".
امتلك كبار الزعماء والتجار والعلماء وبعض أعضاء مجلس المبعوثان العثماني وأعضاء في المجلس البلدي هذه المصابن في الفترة السابقة، و تؤكد الكتب على وجود قاعة خاصة في كل مصبنة للاجتماع بين صاحب المصبنة ووجهاء والأثرياء وكبار موظفي الدولة فيما كان يعرف باسم "الديوانية" يتبادلون الحديث والآراء ويتشاورون في الأمور العامة.
ويقال إن أهم قرار سياسي اتخذ في فترة الانتداب البريطاني خرج من "مصبنة الشكعة"، حيث عقد اجتماع في تلك المصبنة، ووضع في هذا الاجتماع أسس ومبادئ ثورة فلسطين الكبرى عام 1936، وتم الاتفاق على عدة أمور، أهمها إعلان إنشاء اللجنة القومية للإشراف على سير الحركة الوطنية، وأن يتم إعلان الإضراب العام في نابلس وأن تدعى سائر مدن فلسطين إلى الإضراب.
في خمسينيات القرن الماضي، أدخل " كنعان"، صهر آل الشكعة، ما كان عرق بـ "الصابون الأخضر" إلى نابلس، وهو صابون مصنوع من زيت الجفت منخفض الجودة (بقايا الزيتون الصلبة بعد أول عَصرة)، وكان يستخدم لتنظيف الأرض وغسل الملابس، وكان هذا بمثابة ثورة صغيرة في مجال صناعة الصابون.
يقال إن أهم قرار سياسي اتخذ في فترة الانتداب البريطاني خرج من "مصبنة الشكعة"، حيث عقد اجتماع في تلك المصبنة، ووضع في هذا الاجتماع أسس ومبادئ ثورة فلسطين الكبرى عام 1936
وفي منتصف القرن العشرين بدأت صناعة "الصابون النابلسي" في التراجع، وكانت بدايتها مع زلزال عام 1927 الذي دمر الكثير من البلدة القديمة في نابلس، ولم تكن هناك حماية للعلامة التجارية، وهو ما شجع العديد من أصحاب المصانع التجارية إلى تقليد علامة الصابون، ثم جاءت الضرائب الجمركية التي فرضتها الحكومة المصرية بالتعاون مع حكومة الانتداب البريطاني وتلتها رسوم الاستهلاك التي فرضتها الحكومة السورية على الصابون، وبعد قيام "دولة الاحتلال" تعرضت نابلس للكثير من الهجمات من قبل القوات الإسرائيلية، خاصة في أحداث الانتفاضة الثانية حيث دمرت الكثير من مصانع الصابون والكثير من المباني الأثرية في نابلس، وجرى تدمير لمصانع الصابون القديمة في حي الياسمينة ثم خان التجار القديم، كما تضررت عشرات المصابن خلال عملية السور الواقي.
وبحسب أرقام غرفة تجارة وصناعة نابلس يبلغ عدد المصابن المسجلة رسميا في الغرفة 28 مصبنة، ولكن غالبيتها متوقفة عن الإنتاج منذ سنوات وبعضها الآخر قلص إنتاجه بشكل كبير بسبب نقص الطلب على هذا النوع من الصابون مع ازدياد المنافسة من قبل الصابون الصناعي.
وأدى استخدام المنتجات الأجنبية الرخيصة، وإدخال أنماط استهلاك جديدة، إلى تراجع صناعة الصابون في نابلس كما لجأ بعض المنتجين إلى إضافة العطور، ومكننة صناعة الصابون، من أجل إنتاج أنواع جديدة، بهدف الإبقاء على هذه الصناعة تقليدا حيا في نابلس.
ومنذ سنة 2007 لم يعد في المدينة سوى مصنعين قيد الإنتاج، يعودان إلى عائلتي الشكعة وطوقان اللتين حافظتا عليهما كتراث فقط. ويصدر غالبية إنتاج الصابون إلى الأردن، نظرا إلى العلاقات القائمة منذ أمد طويل بالموزعين في الأردن، ومن هناك يتم تصدير جزء صغير من الإنتاج إلى دول الخليج.
كانت مصر الأكثر تأثرا بـ"صابون نابلس" فقد انتقلت الصناعة إلى مصر عام 1928 عندما خضع قطاع كبير من فلسطين للمملكة المصرية، في عهد الملك فاروق، وتم افتتاح أول مصنع لصاحبه محمد شاهين، تحت اسم "نابلسى شاهين" وقررت معظم تلك المصانع إقران اسم الملك فاروق باسم منتجها وصار اسم المنتج هو "نابلسى فاروق"، وبعد ثورة تموز/ يوليو 1952، أزالت إدارة المصانع اسم فاروق من منتجاته.
أم كلثوم في دعاية للمنتج قالت: "استعملوا نابلسي فاروق لأنه مصري يحمل أكرم الأسماء، نقي يصنع من زيت الزيتون 100%، ونزيه يكتفي بالربح القليل، وجيد يبقى في الاستعمال مدة طويلة، ثمن القطعة 8 قروش".
عنها عبد الوهاب قال: "أذكر مع السرور والارتياح أنني استعملت نابلسي فاروق فوجدته يستحق كل تشجيع وتقدير".
وفي دعاية أخرى ورد النص التالي: "قد يختلفان في الفن ولكنهما متفقان في نابلسي فاروق.. لك من أم كلثوم وعبدالوهاب ألحانهما الخاصة في الغناء.. أما في الحمام فإن لهما لحنا مشتركا هو استعمال نابلس فاروق".
وتبدو معركة "الصابون النابلسي" متعبة ومنهكة مع الحداثة ومنافسة المنتجات المستوردة التجارية الرخيصة. فيما يقاوم القائمون على هذه الحرفة للبقاء واقفين من أجل التاريخ والإرث على الأقل.
"أوكاموتو الياباني".. مقاتل من أجل فلسطين
لاجئ من يافا ونشأة "الشيوعي" الفلسطيني وثورة 52 المصرية
كفاح زريقي.. صوتٌ فلسطيني يحمي الهوية والتراث