في 16 نيسان 1988 كان استشهاد القائد أبو جهاد، وقبل
يومين كانت الذكرى الثانية والثلاثين.
حدث الاستشهاد لم يكن عاديا؛ والذكرى ليست عادية؛ لأن شخصية
الشهيد لم تكن أبدا عادية.
حدث الاستشهاد لم يكن عاديا، فبقدر عداء دولة الاحتلال لأبو جهاد،
وما ألحقه بها من أذى وخسائر ورؤيتها للخطر الماحق الذي يشكله عليها استمرار
وجوده، خصوصا رؤيتها لدوره الاستثنائي في إشعال الانتفاضة المجيدة وقيادتها
وإدامة نارها مشتعلة.
بقدر كل ذلك، كان إصرارها على اغتياله. فكانت عملية الاغتيال
اضطرارية ونوعية، وعلى درجة عالية من مخاطرة الانكشاف والفشل في الوقت نفسه.
شارك في الإعداد للعملية كثير من وحدات جيش دولة الاحتلال، ووحدات
من أسطولها ومعظم أجهزتها الأمنية وبعض سفاراتها.
واقتضت العملية نقل قوة الاغتيال الكبيرة عبر البحر المتوسط
لمسافات طويلة. احتاج ذلك إلى سفن وغواصات ومروحيات وقوارب مطاطية لإتمام إنزال
القوة على البر التونسي، واحتاج سيارات لنقل القوة إلى بيت الشهيد وتنفيذ العملية،
ثم العودة بنفس الطريق وبنفس الوسائط.
لم يكن للعملية أن تتم وأن تنجز هدفها دون مساعدة الأسطول
الأمريكي في البحر المتوسط الذي تم تنسيق العملية معه، وأمّن لها الحماية
المطلوبة، ووفر لها التسهيلات اللازمة.
والذكرى ليست عادية؛ لأنها تستحضر شخصية قيادية عليا ومميزة، سكنت
منزلة خاصة في قلوب الناس العاديين ووجدانهم، والثوار والمناضلين أيضا، والتصقت
بأمانيها الوطنية واحتلت مساحة عظمى من احترامها وتقديرها، ومن التطلع إليها والثقة
بها.
والشخصية ليست عادية، لأن فيها من السجايا والأخلاقيات والصفات وما
حققته من إنجازات، ما يفرض وضعها في موقع غير عادي.
واذا كان من الصعب رصد كل تلك السجايا والأخلاقيات والصفات، فإنه
يمكن الاجتهاد بذكر ثلاثة منها:
أولها، الوطنية الصادقة والعميقة الملتزمة كليا بالنضال الوطني
بكل أشكاله، لتحقيق استعادة الشعب الفلسطيني لكامل حقوقه الوطنية والتاريخية.
نذر أبو جهاد نفسه لهذا النضال منذ بواكير شبابه في غزة، فكان له الدور
الرائد في تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) مع ثلة من رفاق دربه
المؤسسين، برؤية متخطية للواقع السياسي السائد، وبتبني استراتيجية حرب التحرير
الشعبية وتكتيكها النضالي، الكفاح المسلح.
وأدى أبو جهاد دورا مركزيا في نقل الاستراتيجية والتكتيك إلى
فضاء الممارسة العملية والمتواصلة، فكانت حركةَ المقاومة المجيدة وفدائييها
وعملياتها البطولية ضد العدو في كل أرض الوطن المحتل.
لم يضعف أبدا حضور أبو جهاد بين مقاتلي الثورة، ولا ضعُفت علاقته
بهم واهتمامه بأمورهم وتطوير قدراتهم وفاعليتهم، مهما تغيرت الظروف والأمكنة
والمواقع. ولم ينحصر أو يقتصر ذلك أبدا على مقاتلي حركة فتح، بل ظل يشمل مقاتلي كل
تنظيمات الثورة.
ثم جاءت الانتفاضة المجيدة ودوره الأول والأساسي فيها وفي إدامتها، لتكون قمة إضافية من قممه النضالية، وجاء معها الوصف الصحيح لأبو جهاد" أول الرصاص - أول الحجارة ".
وثانيها، روحه الوحدوية العميقة والشاملة في كل الأوقات وكل
المجالات ومع الجميع.
كانت تعبيرات هذه الروح تظهر بأجلى وأعمق صورها في أيام الشدة
والمحن، وفي أيام الخلاف وفي ساعة الحاجة.
كان الشخصية الأكثر قبولا لدى الجميع وصاحب العلاقات المفتوحة مع
الجميع، ما جعل منه الأنسب والأنجح في حل الخلافات معها وبينها إذا ما حصلت.
فمثلا؛ عندما اشتد الخلاف بين فتح والجبهة الشعبية، ومعها آخرون،
وأدى إلى مقاطعة "الشعبية" المشاركة في عضوية المؤسسات التنفيذية لمنظمة
التحرير (مع التمسك بالمنظمة ووحدتها ووحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني)، وعندما
طالت المقاطعة كان أبو جهاد أول من التقط يد الحكيم الممدودة، وسارا معا في لقاءات
أثمرت الاتفاق على استعادة الوحدة الوطنية، وانعقاد الدورة التوحيدية للمجلس
الوطني الفلسطيني في الجزائر العام 1987، وعودة "الشعبية" إلى المشاركة
في هيئات المنظمة.
كان الحكيم يجاهر بحبه وتقديره بشكل خاص لأبو جهاد، حتى في أيام
الاختلاف مع حركة فتح.
وهو كان في بيت والدَي أبو جهاد المقيمَين في دمشق معزيا، بعد أقل
من ساعة من خبر الاستشهاد، وكان إصراره أن يكون بيت العزاء في سوريا في مكتب
الجبهة الشعبية في دمشق.
وثالثها: الروح العملية السريعة والملاحقة في تنفيذ أي توجهات أو
قرارات يتم اتخاذها، خصوصا إذا صدرت عن هيئات جماعية لتنظيمات المقاومة، أو
توصيلها إلى القيادات المعنية في الأرض المحتلة.
وكان أفضل تجلٍّ لهذه الروحية أيام الانتفاضة المجيدة، التي كان هو
مسؤول اللجنة العليا للإشراف عليها في الخارج.
زملاؤه في اللجنة العليا كانوا يقرون له مادحين، أنه ينفذ ما يجب تنفيذه
وينقل إلى قيادة الانتفاضة في الداخل ما يجب نقله من التوجيهات والقرارات التي
تتخذها اللجنة العليا، وما تحتاجه من إمكانات بسرعة قياسية، وربما بأسرع مما
ينقلها أي تنظيم إلى قيادته في الداخل.
وفي ذكرى استشهاده، تحضر بقوة صورة تلك الجنازة المهيبة التي جرت في
دمشق وفي مخيم اليرموك بالذات.
مئات آلاف الناس خرجت إلى الشوارع وراء نعش أبو جهاد، تهتف بتصميم
وتقسم على مواصلة المسيرة والسير على نهجه وطريقه.
وفي الأرض الفلسطينية المحتلة، لم يمنع حظر التجول الذي فرضه
الاحتلال على الجماهير، من تنظيم المسيرات الرمزية وفاء للشهيد الذي اغتيل وهو يتابع
ملف الانتفاضة حتى الرمق الأخير.
وما زال أبو جهاد يحتل مكانه المميز في قلوب الناس ووجدانهم وسيبقى
فيها دائما.
(الأيام الفلسطينية)