قضايا وآراء

البرامج السّاخرة.. رؤية شرعيّة: السّخرية من أشكال الأشخاص (4)

1300x600
"تضايقني في الأقلام العربية السّخرية المبتذلة من العوانس والبدينين، يُظهرون العانس ‏امرأة تعوي طولَ اليوم من أجل الرجال، والبدين خنزيرٌ لا يكفّ عن الأكل. مشاعرُ ‏المرأة مقدّسة لا يجبُ أن تُعرَض بهذه الفجاجة، وليتهم جرّبوا عذاب البدين العاجز ‏عن فقدان الوزن لحظة، الباقي أن يسخروا من واحد محروق أو مبتور القدم" (الأديب الرّاحل أحمد خالد توفيق).

من أكثر القضايا التي تحضر في عددٍ من البرامج والفنون السّاخرة استهداف الآخرين في أشكالهم وصورِهم، سواء من خلال البرامج السّاخرة أو من خلال الرّسم الكاريكاتيريّ.

لا تشعروا بالنّقص من أشكالكم

حرص الإسلام على أن يعرف المرء قدر نفسه، وألّا يشعر بالنّقص بسبب شكله ومظهره. وكان هذا من أكبر التّحديّات التي واجهت الدّعوة الإسلاميّة في تلك البيئة الغارقة في الجاهليّة القائمة على الاعتداد بالذّات والانتقاص من الآخرين. فجاء الوعيد في القرآن المكّي لمن يمارسون الهمز واللّمز، فقال تعالى: "وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ" (الهمزة: 1).

والهُمَزة اللّمَزة هو الطّعّان المعياب فهو الذي يسخرُ من النّاس بالقول والفعل ولو بالإشارة، فيرى إنسانا مصابا بعاهة في بدنه على سبيل المثال، فيحاول أن يقلده بطريقة تثير السخرية، إما بالإشارة وإما بالكلام.

وكذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعزّز ثقة الإنسان بنفسه وشكله؛ فذات يومٍ ‏"أبصَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلا يَجُرُّ إزارَه، فأسرَعَ إليه (أو هَروَلَ) فقال: ‏ارفَعْ إزارَكَ واتَّقِ اللهَ، قال: إنِّي أحنَفُ تَصطَكُّ رُكبَتايَ، فقال: ارفَعْ إزارَكَ؛ فإنَّ كلَّ خَلقِ ‏اللهِ عزَّ وجلَّ حَسنٌ، فما رُئيَ ذلك الرَّجُلُ بعدُ إلَّا إزارُه يُصيبُ أنصافَ ساقَيه (أو إلى ‏أنصافِ ساقَيه)" رواه أحمد وسنده صحيح.

والأحنف هو من في ساقية اعوجاج وميلٌ واضح، فهذا الرّجل كان يبالغ في تغطية ساقية بطريقة لافتة فأسرع إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأله عن سبب صنيعه، فأخبره بأنّه يخجل من منظر ساقيه المعوجتين فلذلك يبالغ في تغطيتهما، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يظهرهما دون أيّ خجلٍ أو وجل، مبيّنا له أنّ هذا صنع الله تعالى الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، فشعر الرّجل بدعم نفسيّ شديد ورفع إزاره وكشف عمّا كان يخجل منه.

موقفٌ شرعيّ صارمٌ من السُّخرية بأشكال الآخرين

يلجأ البعضُ عند السخرية من الخصم إلى استهداف شكله بالسّخرية، فتراه يسخر من رجل بدينٍ أو امرأة دميمة، أو يسخر من بشرة خصمه السّوداء أو من شكل عينه أو أنفه أو أسنانه، أو من طوله وضخامته، أو من قصره وقزامته. وقد يصل البعض إلى الاستهزاء من عاهة خلقيّة أو إعاقة جسديّة ابتلي بها هذه الشّخص المُستَهدف.

كان تدخُّل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تدخُّلا عاجلا عند كلّ موقف يكون فيه سخريةٌ من الشّكل أو المنظر.

ففي هذا الموقف يروي ابن مسعود رضي الله عنه موقفا كان فيه الصّحابة يضحكون ويسخرون من شكل ساقيه عندما هبّت الرّيح فكشفتهما وهو يجلس على غصن شجرة.

"عَنِ ابنِ مسعودٍ، أنَّهُ كانَ يجتَني سواكا منَ الأراكِ، وَكانَ دَقيقَ السَّاقينِ، فجَعَلتِ الرِّيحُ تَكْفؤُهُ، فضَحِكَ القومُ منهُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: مِمَّ تضحَكونَ؟! قالوا: يا نبيَّ اللَّهِ مِن دقَّةِ ساقيهِ، فقالَ: والَّذي نَفسي بيدِهِ، لَهُما أثقلُ في الميزانِ مِن أُحُدٍ" أخرجه أحمد وسنده صحيح.

حتّى في مجالسه الخاصّة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صارما مع هذه القضيّة. فمرّة سخرت عائشة رضي الله عنها من شكل ضرّتها وأشارت بيدها دون أن تقول كلّمة، ولكنّ الإشارة إشارة سخرية من قصر ضرّتها، فكان الرّد صارما، ومرّة أخرى قامت بمحاكاة أي تقليد شخصٍ في حركته وفعله، فجاء الرّدّ لا يقلّ صرامة.

"عن عائشة، قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم حسبُك من صفيةَ كذا وكذا، قال: تعني قصيرة. فقال: لقد قلتِ كلِمَة لو مُزِجت بماءِ البحرِ لمزجته. قالت: وحكيْتُ له إنسانا، فقال: ما أُحِبُّ أني حَكيْتُ إنسانا وأن لي كذا وكذا" أخرجه أبو داود والترمذي وسنده صحيح.

وهذه الصّرامة ليست خاصّة بالسّخرية من المسلمين، بل تشمل أيّة سخرية كانت وقد جاء الوعيد الشّديد على لسان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: "مَن سمَّع يهوديّا أو نصرانيّا دخَل النَّارَ" أخرجه النّسائيّ وابن حبّان وسنده صحيح.

أي من سمّع غير مسلمٍ ما يؤذيه بغير حقّ، والسّخرية من الأشكال والأبدان لا حقّ فيها، فهي ليست من كسب هؤلاء ولا صنيعهم ولا فعلهم ولا يدَ لهم فيها.

قال ابن الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر: "وَسُئِلَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ غِيبَةِ الْكَافِرِ؛ فَقَالَ: هِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَحْذُورَةٌ لِثَلاثِ عِلَلٍ: الإِيذَاءُ، وَتَنْقِيصُ خَلْقِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لأَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَتَضْيِيعُ الْوَقْتِ بِمَا لا يُعْنِي، قَالَ: وَالأُولَى تَقْتَضِي التَّحْرِيمُ، وَالثَّانِيَةُ الْكَرَاهَةُ، وَالثَّالِثَةُ خِلافُ الأَوْلَى".

فابن حجر ينقلُ مؤيّدا قول الغزالي، وكلاهما من كبار أئمّة الفقه ومجتهديه، بأنَّ الغيبة لغير المسلم محرّمةُ لما فيها من الأذى. والسّخرية من الشّكل لعمري أشدّ إيذاء وأعظم سوءا فيكون أولى بالحرمة.

وبناء على كلّ ذلك، فإنَّ استهداف أيّ شخصٍ كان خصما أو عدوّا صريحا، بالسخرية من خَلقه وشكله وبدنه سواء من سمنته أو نحافته أو طوله أو قصره أو عاهته أو عجزه أو دمامته أو لون بشرته؛ من المحرّمات التي لا ينبغي لمسلمٍ أن ينجرَّ إليها أو يقع فيها مهما استبدّ به الألم أو علا في رأسه الحماس والاندفاع.

أضف إلى ذلك أنَّ هذا من البذاءة التي يخسرُ بارتكابها أهل الحقّ معركتهم الأخلاقيّة مع عدوّهم، والتفوّق الأخلاقيّ في المعارك بين الحقّ والباطل هو من القضايا التي لا ينبغي أن يتنازل عنها أهل الحقّ مهما حاول الباطل استفزازهم وجرّهم إلى مستنقع البذاءة.

وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيء" أخرجه التّرمذي وسنده صحيح.

ولكن هل ينطبق ذلك على "الكاريكاتير" أو الرّسوم السّاخرة والبورتريه وأشباهها؟!

هذا ما سنعالجُه بإذن الله تعالى في المقال القادم.