قضايا وآراء

أزمة "سد النهضة".. ترامب حلّها

1300x600

في تصريح لوزير الري الإثيوبي، على صفحته الخاصة في تويتر يوم الجمعة الماضي، أعلن سيادته جدول الكميات المحتجزة والمتصرفة من النيل الأزرق خلال فترة التخزين بسد النهضة، حيث أكد أن إثيوبيا سوف تخزن بداية من فيضان عام 2020 كامل تصرفات النهر خلال أشهر الفيضان (تموز/ يوليو، آب/ أغسطس، أيلول/ سبتمبر)، والتي تعادل 34 مليار متر مكعب ثم سيسمح بتخزين 17 مليار متر مكعب، وتصريف 17 مليار متر مكعب عبر فتحات التروبينات خلال أشهر الفيضان، هذا بالإضافة لتصريف باقي المياه من إجمالي التدفق السنوي، والتي يبلغ متوسطها 48 مليار متر مكعب. وأنه بهذه الشكلية ستكون فترة التخزين الكلية لبحيرة سد النهضة تصل إلى 4.23 سنة (أي أربعة أعوام وثلاثة أشهر).

كلام وزير الري الإثيوبي لأبناء شعبه لا يحتمل أي تفسير آخر غير أن الدولة الإثيوبية لن تلتزم بما يسمى "الدورة الهيدرولوجية"، بل تلتزم أمام أبناء شعبها بإنهاء التخزين الكلي في أربع سنوات وثلاثة أشهر، وليس سبع سنوات أو 12 سنة كما يدعي وزير الري المصري الدكتور محمد عبد العاطي.


 

تصريحات وزير الري الإثيوبي تتناغم تماما مع ما جاء في البند الثالث من بيان وزارة المالية الأمريكية يوم الخميس الماضي؛ بأن مصر وإثيوبيا قد اتفقتا على ملء سد النهضة خلال أشهر الفيضان فقط، تحديدا خلال شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس، بينما التخزين خلال شهر أيلول/ سبتمبر يحتاج لإبلاغ مصر والتفاوض معها.

في نفس الوقت الذي كان يصرح فيه وزير الري والكهرباء الإثيوبي بتصريحاته، هذه كان وزير الري المصري يرد على "المغرضين الأشرار" الذين فضحوا بعض ما حدث في اجتماعات واشنطن، وكيف أن إدارة الرئيس ترامب قد وضعت ضغوطا كبيرة على الوفد المصري لقبول قرارات إثيوبيا مع بعض التعهدات الأمريكية لمصر بمساعدتها عبر بعض المنح الفنية لتخفيف أثر القرار الإثيوبي على حصة مصر التاريخية من النيل.

تخزين إثيوبيا لـ17 مليار متر مكعب بهدف الوصول لمنسوب 595 فوق سطح البحر، بغية توليد كهرباء من التروبينات المنخفضة ذات القدرة الإنتاجية التي تعادل 750 ميجاووات مع بداية عام 2021، لا يعني (حرفيا) أن ما تم تخزينه هو 17 مليار متر مكعب، حيث من المنتظر أن يشكل هذا الحجم الكبير من المياه 30 في المئة من حجم البحيرة و50 في المئة من مساحة مسطحها التي تبلغ قرابة 1900 كيلومتر مسطح. وهذا يعني وصول مياه التخزين لمناطق بوسط الغابات الإثيوبية المليئة بالكهوف والتشققات الجيولوجية المتصلة بعضها ببعض في شبكة أنفاق طبيعية لا يعلم غير الله مسارها وأطوالها وأعماقها. ولكننا نعلم وفقا للبيانات الإحصائية لوزارة الري المصرية لعام 2019، والتي كانت تراقب تدفقات النيل الأزرق بشكل دقيق عبر السنوات الماضية، أن تدفقات النيل الأزرق عند المحطة الهيدرلوجية بقرية "الديم" الواقعة على الحدود السودانية- الإثيوبية أن تدفقات النيل الأزرق قد نقصت بـخمسة مليار متر مكعب، نتيجة "ركن" مياه فيضان عام 2018 أمام سد النهضة خلال فصل الصيف وحتى نهاية شهر الأول/ أكتوبر 2018. وأن أغلب الاعتقاد يفسر ذاك النقص بكونه "ضاع" في التشققات الجيولوجية خلال فترة "ركن" مياه الفيضان فقط لمدة تقارب أربعة أشهر.

وعليه، فتخزين 17 مليار متر مكعب وتغطية قرابة 950 كيلومترا مسطحا من البحيرة ليس بالأمر الهيّن، بل سينتج عنه حجم كبير من الفواقد التي لا يعلم مقدارها غير رب العالمين وحده، ولكني هنا سأفترض أنها لن تزيد عن خمسة مليارات فقط. وعليه، فإجمالي ما سيتم اقتطاعه من التدفق السنوي للنيل الأزرق يعادل "17+5=22 مليار متر مكعب". والرسم البياني التالي يوضح هذا الأمر.



موافقة مصر على طلب إثيوبيا في بند "الملء السريع وتوليد كهرباء" مع نهاية عام 2020، يعني تنازل الدولة المصرية تماما عن مطالبها الأولي والخاص بـ40 مليار متر مكعب، ويحقق في نفس الوقت تصريحات الإعلامي عمرو أديب، والذي أعلن قبل عدة أيام وبشكل صريح أن إثيوبيا مصرة على خروج "25 مليار متر مكعب من فتحات التروبينات بدلا من الـ40 مليار التي تطلبهم مصر".

أما على الجانب السوداني فهو لا يري أنه يحتاج للدخول في أي خلافات مع الجار الشمالي (مصر) أو الجار الجنوبي (إثيوبيا)، فهو كونه دولة "ممر" يكسب كثيرا على حساب الدولة المصرية، حيث سيضمن سد النهضة للدولة السودانية، مع ظهور نظام تدفق منتظم للنيل الأزرق، تعبئة خزانات سدودها على كامل العام وعدم الحاجة لتفريغها خلال شهر أيار/ مايو من كل عام تمهيدا لاستيعاب الفيضان القادم، حيث بداية من عام 2020 لن يكون هناك أي "فيضان قادم". ولسوف تتحول "ثقافة وتراث الفيضان" لذكرى يسردها الأجداد للأحفاد الذين لن يروا أي فيضان يغرق المدن السودانية مثلما يتكرر كل عام. كما أن انتظام تدفقات النيل الأزرق سوف يلغي وبشكل "ذاتي" اتفاقية عام 1959 مع الدولة المصرية، وذلك بسبب تغيير النظام الهيدرلوجي للنيل الأزرق بعد سد النهضة. فدولة السودان كانت مجبرة على الاستمرار في اتفاقية عام 1959 ليس حبا في الدولة المصرية، بل بسبب كونها غير قادرة على تخزين تدفقات النيل الأزرق بسدودها خلال فترة الفيضان، ولذلك تم العمل باتفاقية عام 1959 طيلة الـ60 عام الماضية.

ولكن مع تغيير نظام تدفق النيل الأزرق إلى تدفق منتظم فلا بد حينئذ من إعادة ترتيب الأمور مع الدولة المصرية، وإسقاط اتفاقية عام 1959 لكونها فقدت معناها "الهيدرولوجي" وصارت دولة السودان بعد سد النهضة قادرة تماما على التخزين المستمر لتلك التدفقات في بحيرات سدودها، بهدف رفع كفاءة تلك السدود وإنتاج مزيد من الكهرباء، أيضا الاستفادة من تلك المياه المتدفقة في المجاري المائية في ري الأراضي المستصلحة حديثا على ضفاف النيل الأزرق في الولايات الشرقية السودانية بمياه النيل الأزرق، وزراعة ثلاث دورات زراعية بدلا من دورة واحدة كما هو حاصل اليوم.

وعليه، فمعنى اقتطاع 22 مليار متر مكعب من المتوسط السنوي للتخزين بسد النهضة لا يعني بتاتا وصول المتبق من التدفق إلى بحيرة ناصر لبحيرة ناصر مثلما كان يحدث على مدار الـ60 عام الماضية. فهناك على مسار النيل الأزرق قرابة سبعة ملايين فدان من الأراضي المستصلحة السودانية الحديثة، والتي تم استثمار مليارات الدولارات القادمة من السعودية والإمارات العربية والكويت وقطر وتركيا والصين، وغيرها من البلدان الأجنبية، والتي بدأت الاستثمار في تلك الأراضي بغية الاستفادة من التدفق المنتظم للنيل الأزرق والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من تلك المياه للري أراضيهم وزراعة البرسيم الحجازي لإطعام قطيع الأغنام في الإمارات العربية أو السعودية أو الكويت، فهذا خير من أن تذهب تلك المياه لسد جوع أو ري ظمأ مواطن مصري بالشمال.