قضايا وآراء

صُنَّاع الكتاب في مصر

1300x600

ظهرت مهنة الناشر في مصر إبَّان النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من رَحِم نظام الالتزام؛ إذ كان مُلتزم الطبع والنشر يُنفق على طباعة كتاب ما، غالبا في مطبعة بولاق؛ ثم يتولَّى تسويقه من خلال مكتبته بالأساس، أو ببيعه أحيانا من خلال مكتبات أخرى. ورغم ظهور الطابع-الناشر مع بدء إنشاء المطابع الأهليَّة، إبَّان عشرينيَّات القرن التاسع عشر؛ إلا أنَّ مُلتزم الطبع والنشر يظل هو الجذر الأقرب للتوصيف الوظيفي للناشر كما نعرفه إلى اليوم، أي الناشر الذي يُدير عمليَّات الإنتاج والتوزيع، من خلال شبكة علاقات تربِطُ بين الكاتب والمطبعة والمكتبة، وهي الصورة التي بدأت بالتبلور مع تزايُد إنشاء المطابع الأهليَّة في عهد الخديوي سعيد.

ويُعلّمنا التاريخ أن القواعد الحاكمة، لأيَّة مهنة؛ يضعها من يُدشِّنون هذه المهنة، ويخلقونها خلقا؛ فإذا هي تتبلور وتتخذ لها صورة وهيئة على أيديهم، من خلال التجربة والممارسة. ثم يتكفَّل الزمن بتقعيد هذه القواعِد وترسيخها، خلال جيلين أو ثلاثة؛ لتحكُم الواقع العملي الجديد. وتشهد تجارب التاريخ بأن الآباء المؤسسين، لأيَّة مهنة؛ غالبا ما يكونون من أبناء عائلة واحدة، أو عائلتين مُتنافستين؛ يورِّثون المهنة لجيلين أو ثلاثة على الأكثر، حتى تستقر القواعد الحاكمة، أو تنحطّ العائلات المؤسِّسة، أيهما أسبق.

 

إن قمة الشذوذ والفجور أن يُمسي الاقتصاد معيارا للفكر والعلم والثقافة... إنها ردة ولا أبا بكر لها!


ولمهنة النشر في مصر آباء مؤسسون، كسائر المهن؛ بعضهم رفع قواعد البناء، والبعض وضع لبنة واحدة فحسب، وذلك قبل أن تنطفئ الجذوة؛ فتنحط العائلة، أو تُغيِّر مسارها، أو حتى ينتقل أفرادها لمهنةٍ أخرى بالكليَّة. وإذا كانت بعض العائلات تتعيَّش فترة انحطاطها على إعادة إنتاج ما أبدعه مؤسسوها، فإن هناك عائلات أخرى يتغيَّر مركز ثقلها داخل الإطار الأوسع للمهنة؛ فتنتقل معظم جهودها مثلا من النشر إلى صناعة الطباعة، أو إلى التوزيع؛ وذلك بغير إهمال كاملٍ للنشر أو تألُّقٍ فيه. وهو ما يُطيل عمرها لجيلين إضافيين على الأقل، ويعتمد هذا بشكل كبيرٍ على القدرة الذكية على التكيُّف، التي تؤخر انقراض العائلة، بل وتجعل منها قيمة مهنيَّة مضافة، بصورة أو بأخرى. 

وعندنا أنه لا يمكن اعتبار أي ناشر من الآباء المؤسسين، ولو كان عمر منشأته مئتي عام؛ إلا لو توفَّر له شرط الإنجاز ـ النقلة، الذي يُضيف للرصيد المهني إضافة بارزة، وذلك مثل الطفرة النوعية التي أحدثها أمين الخانجي "الكبير" في تحقيق ونشر مخطوطات التراث العربي الذي شغف به. إذ كان رحمه الله يجوب البلاد، طولا وعرضا؛ يجمع نوادر المخطوطات من بيوت العلماء، في قرى مصر والشام والمغرب والجزيرة؛ ليستنقذها من استخدام ورثتهم كوقود للطبخ، ثم يحققها وينشرها. أو قد يكون هذا الإنجاز ـ النقلة في صورة طفرة كميَّة نطمع أن يُحدثها، في المستقبل القريب؛ ناشر صاحب رؤية اقتصاديَّة ورسالة، يُخفِّض سعر الكتاب بشكل ملحوظ نتيجة للإنتاج الكبير (الذي يعتمِدُ على ضخامة التوزيع، ومن ثم سُرعة دوران رأس المال؛ ومن ثم تحسُّن الربحيَّة بغير حاجة لرفع أسعار الكتب)، وبغير أن يؤثر ذلك على جودة "المنتج"؛ شكلا ومضمونا.

تبقى كلمة أخيرة، عن الأجيال المتأخِّرة في مهنة نشر الكتاب في مصر؛ وهي أن أكثر الناشرين الذين نكبوا السوق وأفسدوها، بنشر المبتذل والسفيه من الكتب؛ هم للأسف ذريَّة بعض آباء المهنة الذين جدَّدوا شبابها؛ إذ في حين كان النشر على عهد آبائهم شغفا بالعلم وإيمانا بقيمته؛ صار مع هؤلاء الورثة مهنة مُمتهنة؛ وهذا كله تدهور إنساني طبيعي، واكتمال لدورة الحياة؛ كما أسلفنا. كما أنَّه من الطبيعي والإنساني أن يبحث الناشِر عن الربح، وأن ينحطَّ الجيل المتأخر إلى التعامُل مع الرسالة بوصفها تجارة، بل وأن يختلِق "الأفضل مبيعا"، بوسائل مختلفة؛ لتعظيم ربحه. كل هذا متوقَّع ومفهوم. أما غير الطبيعي وغير الإنساني وغير المفهوم؛ فهو أن يتربَّع أمثال هؤلاء المرتزقة على قمَّة الهرم المهني، بوصفهم "كبارا"؛ وكأنما صار المعيار الوحيد للتقييم هو حجم رأس مال الناشر. إنه تحطيمٌ لتقاليد مهنة بدأت رسالة ودينا.
 
إن قمة الشذوذ والفجور أن يُمسي الاقتصاد معيارا للفكر والعلم والثقافة.. إنها ردة ولا أبا بكر لها!