يبدو أنّ أكثر ما يبرز في العمل الأكاديمي وما يتم الحفاظ عليه بصرامة عالية هو أمر يشابه التقعيد اللغويّ القياسيّ، حيث إن العمل مركّزٌ على إبراز القوانين الجمعيّة للغة وشكل الأداء الصحيح، مع نسيان أنّ أشكال توظيف القاعدة القياسيّة يسمح بتعددٍ لا يتناهى .
قواعد، قوالب، رتابة، رزانة في اللباس والحركة والكلام، تأنّقٌ مبالغٌ فيه، هذا على المستوى الشكلي. وأما معرفيا فسيّدُ المشهد هو التلقين، دراسة الأعمال ذاتها، انتقال حذر للمعرفة، وأمّا الحريّة في التفكير وإبداء الرأي فكثيرا ما يقتصر دورُها على تحديد موعد الامتحان.
يستطيع المرء، بجهدٍ قليلٍ، أن يقدّم مادة معرفيّة مع بيان سماتها وآثارها، وربما مع تذكّر بعض النقد الموجّه لها، لكنّ العمل الذي يتطلب وعيا عميقا هو نقل الدهشة والحيرة والتفكير الناقد، الذي يطال المسلّماتِ والأفكارَ المستقرّةَ في العقل والممارسة الإنسانيّة.
ما يتطلّب معرفةً خاصةً هو أنْ يبدأ المرء، حين يستمتع بعمل جمالي، رحلتَه في البحث عن كل ما يماثله ويفوقه ويشبهه ويختلف عنه، وكيف يجعل منه مرجع مقارنةٍ دائمةٍ لا تتوقف، تهتزّ بفعلها صور كثيرة في مخيّلته.
في هذه الحال، تكون ذائقته قد تطورت فعلا، ولن يصمد أمامها إلا الجميل حقا، ذلك الذي يُستفزّ عند قراءة كلّ عمل عظيم.
من الصور المثيرة في ذاكرتي شخصيّةُ سيدهارتا في الرواية التي تحمل اسمه للألماني هرمان هسه، حيث لا يقبل المعرفة المسبقة عن نفسه، فيقول: "إنّ ما أعرفه عن نفسي، عن سيدهارتا، أقلّ مما أعرفه عن أيّ شيءٍ آخرَ في العالم، وليس بوسعي أن أتعرّف على نفسي إلا من خلال نفسي".
لا يطمئن سيدهارتا، في رحلة حياته التي تصبح رحلة اكتشاف دائبة، لنهج قومه البراهمي الهندوسي ولا تستقرّ نفسه لمعنى الوجود وللخبرة الروحية فيه، وإنّما تحرّكه بطاقة هائلة نحو الحريّة والتحرر من كلّ اتباع وتقليد، ونحو العلوّ على الذات بشكل لا يعرف حدّا يمنعه عن المحاولة والتجريب، فيقرر مع صديقه جوفيندا مغادرة قومه ليخوضوا تجربة زهد وتنسّك مع جماعة "الساماناة" ثم مع "البوذية"، دون توقّف ذلك القلق والتوق إلى تجربة جديدة، فيعلن سيدهارتا، بعد أن قرر رفيقُه البقاء في البوذيّة، أن البوذيّة، مع إقراره بفضلها وحكمتها، ليست الخبرة التي تحدّه وتوقفه، وأنّ المعنى الفريد الذي يبحث عنه لا يمكن أن يُقدّم إليه من معلم، لذلك انطلق يراود غايتَه وحده دون قيدٍ مسبقٍ أو شرطٍ من أحد.
وفي الوقت الذي يمثّل فيه سيدهارتا مثالا لأفق الحرّيّة الذي تفتقده عوالم التبعيّة، يغدو من الضروريّ الالتفات إلى تحليل البعد الفكريّ للتقاليد وضرورة الاتباع في المجال الأكاديميّ الذي يقدّمه باولو فيريري في كتابه ذائع الصيت "تعليم المقهورين".
يقدّم فريري في كتابه تمييزا محوريّا يفصّل أبعاده بين ما يسميه "التعليم البنكيّ" و "التعليم التفاعليّ"، حيث يقوم الأوّل على فكرة التلقين المماثِلة تماما للإيداع في الحساب البنكي، فيكون بالإمكان استرجاع ما تمّ إيداعه دون إضافات ذات قيمة، وهذا يعكس تماما القيم القمعيّة والنظام السياسيّ الاستبداديّ والمجتمع الأبويّ.
في المقابل، يقوم الثاني على التفاعل التام بين الأستاذ والطالب الذي يصبح جزءا مركزيّا من المادة التعليميّة المُقدّمة، وهو احتمال منفتح على نتائج غير محدودة ولا يمكن التنبؤ بها أو صناعتها؛ ذلك أنّ "التعليم التفاعليّ" تنتفي فيه المركزيّة المسبقة للمعلم وللمادة، ليتحوّل الشكلُ إلى علاقة تتحقق النتائج فيها من خلال التفاعل بين أطرافها.
العامل الإنسانيّ من جهة الطلبة والمعلمين أيضا ليس مؤطّرا أو محددا مسبقا، وإنّما هو احتمالٌ بظهور تفكيرٍ جديدٍ وإبداعٍ متجدد.
مهمّة التعليم وفق مفهوم "التعليم البنكيّ" هو تحديد العالم وتثبت قيمه وصوره بشكل نهائيّ، والمتعلّمون فيه هم عبارة عن مقهورين يواجهون نظامَ قهرٍ يغرس فيهم قبولَه على أنّه قدرٌ لا يمكن رفضُه أو تغييرُه، وعلى أنّه الشكل الطبيعيّ للتعليم.
ومهمّة "التعليم التفاعليّ" هو تحرير الإنسان بشكل تام ليكون قادرا على إدارة طاقاته وتنظيمها، وبالتالي ليتمكّن من تغيير العالم وإعادة إنتاجه وتشكيله.
وفي ظلّ هيمنة "التعليم البنكيّ"، لا بدّ من حركة تحرريّة يقودها الضحايا بأنفسهم، تبدأ من خلال فهم ظروف القهر التي تُخضعهم وتُروّضهم، ويتشكّل هذا العمل وفق فريري بصورة تضامنيّة بين المكوّنات الاجتماعيّة التي تستطيع بشكل طبيعيّ أن تفرز طاقات تحريرها بشكل إبداعيّ.
في هذا السياق لا يمكن أن يبارح أذهانَنا ما فعله أستاذ الأدب جون كيتنج (روبن وليامز) في أكاديميّة ويلتون في فيلم "جمعيّة الشعراء الموتى"، حيث يقود طلابه إلى تحطيم ما تراعيه هذه الأكاديميّة من تقاليد الحفاظ على الألقاب الرسميّة واللباس، وطرق التفكير والتعليم، التي تؤدي إلى تحنيط العقل والروح، والحيلولة دون الحريّة والحلم، والرؤية، والشغف بالحياة، والتفاعل مع مظاهر الجمال والمعرفة والفكر.
هل نستطيع فعلا مثل ذلك؟ هل نمتلك الإصرار لنحارب حتى اللحظة الأخيرة من أجل غايتنا؟ هل نبحث عن حلم يفتح لنا نوافذ لنلاحقه دائبين مهما طال بعده، ونشعر أنّ وجودنا بدونه سيقع في المقصلة؟
يقول القلقشندي: "من لا يكتب فكلتا يديه شمال"، فكيف أكون حين لا أحاول القراءة!