منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي عقب ثورة 17 فبراير 2011، شهدت ليبيا نزاعات مسلحة على السلطة بين العديد من المجموعات المسلحة المتنافرة وغير المتجانسة، وأسفرت الصراعات على الدولة الغنية بالنفط عن بروز قوتين وإدارتين متنافستين؛ تمثلهما حكومة "الوفاق الوطني" المعترف بها من قبل الأمم المتحدة ومقرها طرابلس، وحكومة أخرى موازية لها في مدينة طبرق بشرق البلاد يدعمها الجنرال حفتر، قائد ما يسمى بـ"الجيش الوطني الليبي"، الذي يصر على السيطرة على كامل البلاد تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب"، حيث يفرض حفتر حصارا على طرابلس منذ نيسان/ أبريل 2019، متهما حكومة الوفاق التي يقودها فايز السراج بإيواء جماعات إرهابية.
وتستمر المواجهات المسلحة في جنوب وجنوب غرب طرابلس، بشكل متصاعد منذ إعلان حفتر في 12 كانون الأول/ ديسمبر الماضي عن "ساعة الصفر" لاقتحام العاصمة الليبية. ورغم أن الصراعات في ليبيا تقدم باعتبارها محلية، إلا أن حقيقتها باتت صراعات دولية تأخذ طابع حرب الوكالة.
لم تعد الأطراف الدولية والإقليمية تخفي وجودها في ليبيا، فهناك تواجد روسي وأمريكي وتركي في ليبيا، فضلا عن وجود إيطاليا وفرنسا ومصر والإمارات وغيرها من الدول في المنطقة.
وقد دفع الاتفاق الموقع في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بين تركيا وحكومة الوفاق، الذي يتضمن تعيين حدود المناطق البحرية بين البلدين في البحر المتوسط، ثم تلويح الرئيس التركي أرودغان بإرسال قوات تركية إلى ليبيا، إلى الكشف بصورة جلية عن طبيعة القوى الدولية المتداخلة في ليبيا وانحيازاتها. فقد لقي الاتفاق تنديدا واسعا من مصر واليونان المنافسين التقليديين لتركيا، ومن الاتحاد الأوروبي عبر عن رفضه أيضا هذه الاتفاقية وتأييده الموقف اليوناني.
تؤكد تركيا وقوفها إلى جانب حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، لكن الرواية المصرية والإماراتية تصر على أنها تقف إلى جانب قوات ما يسمى "الجيش الوطني" بقيادة حفتر، وتتذرع بحرب الإرهاب، في سياق الجدل حول "الثورة" و"الثورات المضادة". لكن التنافس على المصالح يتجلى بصورة واضحة، ويشتد بين فرنسا وإيطاليا في ليبيا، فالأولى تُعتبر عرابة التدخل العسكري الغربي في ليبيا، وهو تدخل تعتبره إيطاليا تهديدا لمصالحها، ويتجسد هذا الصراع على الأرض في دعم روما لحكومة الوفاق الوطني، بينما تدعم باريس حفتر، فعلى صعيد الاقتصاد والطاقة يتجسد الصراع من خلال المنافسة الشرسة بين شركتي الغاز والنفط التابعتين للبلدين، وهما توتال الفرنسية وإيني الإيطالية. وحتى على صعيد الجهود الدبلوماسية، حرصت كل دولة على إطلاق مبادرات ولقاءات، كمبادرتي باريس وباليرمو في 2018، والتي كانت تسعى في الظاهر من خلالها إلى إيجاد حل سياسي، لكن الحقيقة أن كل طرف كان يحاول من خلال هذه المبادرات ترجيح كفة حليفه وحشد الدعم له.
كانت صراعات القوى الدولية والإقليمية الوسطى والصغرى، لكن الصراع الدولي الأكبر بدأ بالتكشف من خلال دخول روسيا وأمريكا على خط الصراع
تلك كانت صراعات القوى الدولية والإقليمية الوسطى والصغرى، لكن الصراع الدولي الأكبر بدأ بالتكشف من خلال دخول
روسيا وأمريكا على خط الصراع، ذلك أن دعم الروس لحفتر هو الذي قد يغير قواعد اللعبة حسب مجلة "الإيكونوميست". فالقوات الروسية هي التي ساعدت حفتر على تعزيز قبضته على حقول النفط في الشرق والجنوب الليبي، وقد تقلب المعادلة في طرابلس. فقد برز وجود مرتزقة روس على الجبهات الأمامية للحرب، وتأثيرهم على القتال على العاصمة الليبية، الأمر الذي دفع للمرة الأولى متحدثا باسم "القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا" ("أفريكوم") للتأكيد على وجود "شركات عسكرية روسية خاصة" في غرب ليبيا، عقب تنامي الشكوك منذ فترة طويلة حول وجود روسيا في شرقي البلاد، بعيداً عن ساحات القتال. وقد أشار العديد من المسؤولين الليبيين والغربيين إلى وجود ما بين 200 و1400 متعهد عسكري روسي خاص، ينتمي معظمهم إلى "مجموعة فاغنر" المرتبطة بأحد المقربين من فلاديمير بوتين. وفي خطوة غير مألوفة، ندّد حوار أمريكي- ليبي بـ"
محاولات روسيا لاستغلال الصراع ضد إرادة الشعب الليبي".
مع تنامي أفق الخلافات والأزمات والصراعات، طُرح مؤتمر "برلين" الذي جرى التحضير له بكثافة وسبقه حراك دبلوماسي كبير بهدف إنجاحه على المحك، وباتت هناك مخاوف من أن يُنسف حتى قبل تنظيمه، وقد ساهم التصعيد الحالي بتأجيل المؤتمر. فبينما كان يتم الحديث عن أنه سَيُعقد هذا العام وتحديدا خلال الشهر الجاري، تأجل المؤتمر مبدئيا إلى شهر كانون الثاني/ يناير المقبل دون تحديد موعد محدد. وبعد اجتماع لقادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، أكّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي؛ أنّ الاستقرار في ليبيا "يمكن تحقيقه فقط عبر حل سياسي". وأشار ماكرون إلى تأكيد قادة الاتحاد الأوروبي على ضرورة التسوية السياسية للوضع في ليبيا، وأعرب عن أمله في أن يمكّن اجتماع برلين المقبل بشأن ليبيا من العبور إلى دولة جديدة، وفق تعبيره.
وقال المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة في 7 كانون الأول/ ديسمبر 2019، إنه يمكن أن يكون هناك "حمام دم" في ليبيا في حال فشل المؤتمر الدولي المقبل في إرساء الاستقرار في الدولة التي مزقتها الحرب.
سلوك حفتر يعزز من حرب الوكالة وتنامي آفاقها، إذ لم تكن خطوة اللواء المتقاعد خليفة حفتر بإعلان الزحف "المقدس" على مدينة طرابلس في ليبيا؛ سوى النهاية المنطقية لسلسلة من المغامرات التي تجسد منظورات الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي
في حقيقة الأمر، إن سلوك حفتر يعزز من حرب الوكالة وتنامي آفاقها، إذ لم تكن خطوة اللواء المتقاعد خليفة حفتر بإعلان الزحف "المقدس" على مدينة طرابلس في ليبيا؛ سوى النهاية المنطقية لسلسلة من المغامرات التي تجسد منظورات الثورة المضادة على ثورات الربيع العربي، ذلك أن الرجل السبعيني يمثل رؤية الثورة المضادة بامتياز. فمنظومة الثورة المضادة التي تضم طيفا من القوى المحلية المسندة إقليميا ودوليا تستند في منظوراتها إلى إعادة تأهيل قوى عسكرية محلية تحت مسمى جيش وطني، تعمل على إعادة بناء الدولة التسلطية الما بعد كولونيالية بأجهزتها القمعية والأيديولوجية، عبر ذريعة "حرب الإرهاب"، وهو مصطلح بات يشير إلى كافة القوى المناهضة للدكتاتورية المحلية والإمبريالية الخارجية، والتي تتموضع في خيارات الديمقراطية كبديل ثالث للفاشية. ويعتبر مسمى "الجيش الوطني" ركيزة أساسية في بنية ما أطلق عليه الدولة الوطنية، كضامن للاستقرار المؤسس على الفساد الميسر لعمليات النهب للمستبدين ومشغليهم الإمبرياليين.
حسب الكاتب فريدريك ويهري والدبلوماسي الأمريكي السابق جيفري فيلتمان، وكيل الأمين العام السابق للأمم المتحدة للشؤون السياسية، في مقال مشترك لهما، فإن حفتر "السبعيني" الذي
تدعمه الإمارات ومصر والسعودية وفرنسا وروسيا؛ يستهدف إفشال المؤتمر "بمحاولة وقحة من أجل الاستيلاء على السلطة"، لكنه فوجئ بمقاومة لم يكن يتوقعها. كما أن "الصراع المتصاعد في ليبيا يهدد بتدمير الجهود المستمرة للتوصل لتسوية سلمية، ويعزز تنظيم الدولة الإسلامية هناك".
ويشير زحف قوات حفتر إلى طرابلس؛ إلى أن حفتر يزدري وبوضوح لا لبس فيه جهود السلام الأممية. وانتقد الكاتبان إدارة دونالد ترامب قائلين إنها ورغم مناشدات الأمم المتحدة ممارسة ضغط دبلوماسي فعّال لوقف تدخل داعمي حفتر في شؤون ليبيا، فإنها لم تظهر رغبة في مساعدة هذه البلاد وحسب، بل بدأت مؤخرا تشجع حفتر، في اتساق مع روابطها بالرياض وأبو ظبي، ومع تفضيل ترامب للقادة المستبدين.
يبدو أن ثمة تغير في الرؤية الأمريكية بخصوص ليبيا بعد تنامي الحضور الروسي، فحسب بين فيشمان فإنه بعد سبعة أشهر من المراوغة بشأن الحرب الأهلية الثالثة التي تشهدها ليبيا منذ ما يقرب من تسع سنوات، أمام إدارة ترامب فرصة للعب دور هام في وقفها. ولتحقيق ذلك، قد يتعين على الإدارة الأمريكية الانخراط في دبلوماسية حثيثة ومعرقلة على نحو غير معهود في المنطقة.
فليبيا لم تحظَ قط بالاهتمام الأمريكي الذي تستحقه، سواء من قبل إدارة ترامب أو من إدارة أوباما قبلها. لكن الرهانات أكبر هذه المرة، في ظل تهديد روسيا بترجيح كفة ميزان القوى وتوسيع نطاق وجودها على الحدود الجنوبية لحلف "الناتو". ويمكن للإدارة الأمريكية أن تذعن لنفوذ روسيا المنتشر، أو تطعن فيه من خلال جمع الدول التي تشاطرها الرأي لإعطاء دفعة أخيرة لحل سياسي في ليبيا.
ليبيا تحولت من ثورة تنشد الحرية والعدالة والكرامة، إلى نزاع داخلي مسلح بفعل قوى الثورة المضادة، وصولا إلى دخولها في أفق الصراع الدولي، الذي تصاعد مع احتدام حرب الوكالة
إن السند الأساس في تغيّر الموقف الأمريكي يقوم على أن استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب، واستراتيجية الدفاع الوطني، واستراتيجية مجلس الأمن القومي لأفريقيا، تناهض فكرة السماح بتدخل روسيا في ليبيا. وإذا جعلت روسيا كفة الحرب تميل لصالح حفتر، فسوف تجرد الغرب من نفوذه في ليبيا، سواء من خلال ضمان انتشار عدم الاستقرار، أو تبديد الآمال بالتوصل إلى عملية انتقال سياسي سلمي، حسب فيشمانز. وقد نجحت الولايات المتحدة في السيطرة على الإرهاب الناشئ من ليبيا بعد هزيمة تنظيم الدولة في سرت عام 2016، من خلال شن ضربات استهدفت تنظيمي "الدولة و"القاعدة"، وإذا لم تعد "القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا" قادرة على ضرب أهداف في ليبيا، بتركها أعمال مكافحة الإرهاب لروسيا، فمن المرجح أن يعود تنظيم الدولة إلى الظهور.
خلاصة القول أن ليبيا تحولت من ثورة تنشد الحرية والعدالة والكرامة، إلى نزاع داخلي مسلح بفعل قوى الثورة المضادة، وصولا إلى دخولها في أفق الصراع الدولي، الذي تصاعد مع احتدام حرب الوكالة. ويبدو أن تنامي الحضور الروسي سوف يدفع أمريكا إلى مزيد من الانخراط في ليبيا، الأمر الذي سيغير من قواعد اللعبة، ولذلك فإن قوات حفتر التي تحاصر طرابلس باتت في سباق مع الزمن لتحسين شروط التفاوض، ذلك أن مسألة الحسم العسكري لم تعد تنطوي على قدر من المعقولية والموضوعية، فالإشارات الأمريكية باتت واضحة لروسيا، وحفتر لم يعد يملك سوى الرطانة البلاغية، شأنه شأن دكتاتور مماثل اسمه الأسد.