أن تذهب إسرائيل إلى انتخابات عامة ثالثة خلال أقل من عام، دون أن ينجح نظامها السياسي في تشكيل حكومة طبيعية ناجمة عن جولتين انتخابيتين سابقتين، ودون حتى أن يكون هناك ما يؤكد بأن الانتخابات الثالثة القادمة، التي ستجري في الثاني من آذار القادم، ستكون حاسمة، أو أنها ستنجح فيما فشلت فيه الجولتان السابقتان، يعني بكل بساطة بأن النظام السياسي الإسرائيلي بات نظاما مأزوما، وبشكل عميق وجدي للغاية.
وقبل الخوض في توقع ما يمكن أن تفضي إليه الجولة الانتخابية القادمة، لا بد من محاولة الوقوف أولا على السبب الذي فشلت معه الجولة السابقة في تشكيل حكومة بنتيجتها، رغم أن القوائم الانتخابية كانت قد ذهبت إليها وكل منها يرفع الشعار الخاص به، أي إنه يعرف ما سيفعله، بعد إجرائها، والأهم أنه يعرف سلفا بأنها لن تكون حاسمة، وستقترب بنتيجتها من سابقتها التي جرت في نيسان الماضي.
منذ البداية كانت الظروف مهيأة أو ضاغطة باتجاه تشكيل ما يسمى في إسرائيل بحكومة الوحدة الوطنية، أي حكومة مشكلة من الحزبين الكبيرين المتخاصمين أو اللذين تنافسا في الانتخابات وسبق أحدهما الآخر بفارق مقعد واحد، وكذلك تفوق بمعسكره الذي يقوده على المعسكر الآخر بفارق مقعدين، فيما كان "بيضة القبان بينهما" أي حزب إسرائيل بيتنا بزعامة أفيغدور ليبرمان، يؤكد ويطالب ليل نهار بتلك الحكومة، أي حكومة الوحدة، لأنه يرفض ببساطة تشكيل حكومة ضيقة لليمين تضم الحريديم، وحكومة ضيقة ليسار الوسط، مدعومة من القائمة العربية.
ورغم أن الرئيس الإسرائيلي رؤفين ريبلين، دفع الأمور وفي محاولة لكسب الوقت ومنذ بداية تكليفه الحزبين على التوالي بتشكيل الحكومة باتجاه هذا الخيار، بل وقدم مبادرته المعروفة، وهي أن يتولى رئاسة حكومة الحزبين زعيما القائمتين بالتناوب، إلا أن إسرائيل لم تنجح بعد مضي ثلاثة أشهر على إجراء الانتخابات السابقة في تشكيل تلك الحكومة.
لماذا لم تنجح؟ برأينا هذا هو السؤال المهم أو السؤال المدخل لمتابعة ما بعد حل الكنيست الثاني والعشرين لنفسه، دون أن يشكل الحكومة الناجمة عن انتخابه، وهنا لا بد من القول بأن الحزبين، أي حزب الليكود وحزب أزرق_أبيض، مارسا تكتيكا سياسيا بعد إعلان نتائج الانتخابات السابقة، استند على أنهما لن يشكلا حكومة الوحدة، لذا فقد كان تركيزهما على من يتحمل وزر إفشال تشكيلها أمام الجمهور، ومن ثم كان سلوكهما إزاء مهمة تشكيل الحكومة بمنزلة دعاية انتخابية متقدمة.
أولا اتبع بنيامين نتنياهو الذي يقود الليكود واليمين بشكل فردي، ناجم عن تولي الرجل رئاسة الحكومة بشكل متواصل منذ عشر سنوات مضت، سياسة تحصين أو تكتيل اليمين حوله، فهو سارع على الفور، لعقد اتفاق مع قوائم اليمين والحريديم، المكون من أربع قوائم وهي الليكود، اتحاد أحزاب اليمين، شاس ويهدوت هتوراه، على أساس التوحد معا في مواجهة مهمة التكليف، والتعامل مع الخصم ككتلة واحدة، ومن ثم الإصرار على أن يكون نتنياهو بالتحديد هو المرشح عن هذا المعسكر أو هذه الكتلة لرئاسة الحكومة، وكذلك الإصرار على أن يتولى هو أولا رئاسة الحكومة في اتفاق التناوب.
وكان ذلك لتحقيق الأهداف التالية: فالتفاوض مع أزرق_أبيض ككتلة يمينية واحدة وليس كليكود فقط، يعني بأن يكون أزرق_أبيض أقلية في مثل تلك الحكومة، ومن ثم يكون تأثيره على رسم سياساتها أضعف، وكأنه قد التحق بحكومة يمينية كما كان قد فعل منذ نحو خمسة عشر عاما حزب العمل، حين التحق بحكومة أرئيل شارون، وهذا يعني أنه يستحيل على أزرق_أبيض أن يوافق، ثم كان الإصرار على رئاسة نتنياهو بالتحديد للحكومة إحراج الخصم أو توجيه ضربة له إزاء ناخبيه، حيث كان قد تعهد في الانتخابات السابقة بعدم الشراكة مع نتنياهو، حيث ركز معركته على إسقاط الرجل بالتحديد أكثر من كونه يخوض معركة ضد اليمين، أما الإصرار على تولي نتنياهو رئاسة الحكومة أولا في ظل نظام التناوب، وهنا حدثت مرونة من قبل اليمين لاحقا، تمثلت في أن تقتصر تلك الفترة على ستة شهور فقط، فكان الهدف منها هو تحصين الرجل في مواجهة لوائح الاتهام القضائي، بعد أن بات واضحا استحالة نجاحه في الحصول على تحصين من الكنيست.
من جانبه أزرق_أبيض، فقد خاض معركة تشكيل الحكومة، بتكتيك اعتمد على إفشال الخصم، أكثر من التركيز على نجاحه هو، واستند إلى كون كل من هم تقدموا بالتوصية لرئيس الدولة بترشيح زعيمه بنيامين غانيتس، أي إضافة إلى أزرق_أبيض، كل من حزب العمل، ميريتس، القائمة العربية، وحتى إسرائيل بيتنا، توافقوا على إسقاط نتنياهو بالتحديد، بإفشال سعيه للبقاء رئيسا للحكومة أية فترة إضافية .
وفي إدارته لإفشال مهمة حكومة الوحدة مع اليمين، وليس مع الليكود، كما يفترض، اتفق مع القائمة العربية على أن يمتنع ممثلو التجمع الوطني الديمقراطي عن التوصية لغانتس أمام رئيس الدولة، وبذلك أوصى له 54 نائبا في حين أوصى لنتنياهو 57، فكلفه ريبلين أولا، ومن ثم كلف غانتس تاليا، حتى يتم وضع إسرائيل تحت الضغط إذا ما فشل غانتس وحتى يتم كسب الوقت، حتى يقوم المستشار القضائي للحكومة بتوجيه لوائح الاتهام لنتنياهو في فترة تكليف غانتس، حتى يكون ذلك سببا في إخراج نتنياهو من دائرة التناوب وتشكيل حكومة الوحدة مع شخصية أخرى من اليمين.
ولأن لائحة الاتهام قدمت بحق نتنياهو في اليوم التالي لانتهاء فترة تكليف غانتس، فقد ذهب الكنيست إلى 21 يوما أخيرة يمكن خلالها تكليف شخصية ثالثة بمهمة تشكيل الحكومة، وهذا يحتاج إلى أغلبية 61 نائبا للتصويت، حاول معسكر الوسط_اليسار خلالها الضغط من خلال الشارع لإجبار نتنياهو على الخروج من الدائرة السياسية، على خلفية الاتهام، لكنه تشبث وظل متحكما باليمين والليكود، وهكذا تدفع إسرائيل ثمن حكم اليمين المتواصل، وثمن تثبيت شخصية فردية في الحكم على نمط الاستبداد الشرقي، لذا؛ فإن الانتخابات القادمة المتوقع عدم ابتعادها كثيرا عن نتائج سابقتيها، يمكن فقط أن تنتهي بتشكيل حكومة، فقط إذا ما خرج نتنياهو من محفل السياسة بقوة القضاء.
(الأيام الفلسطينية)