تثير الغرابة أسئلة
الصحافيين العرب والأجانب على حد سواء حين يركزون اهتمامهم على أسباب ودوافع بعض الأحداث
الساخنة، أو مَن مِن الطرفين يتحمل المسؤولية عن وقع تلك الأحداث، خصوصا حين يتعلق
الأمر بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
كالعادة، فإن معظم وسائل الإعلام، بعضها عن
قصد ودراية واغلبها عن جهل، تنصب الأسئلة، في اتجاه إدانة اطلاق الصواريخ والدوافع
من وراء ذلك، والجهة المسؤولة.
إن كان الأمر يتعلق بالجولة
الأخيرة من الاشتباك يوم الجمعة المنصرمة التي تخللها اطلاق عشرة صواريخ في اتجاه
غلاف غزة، تصدت لها القبة الحديدية، وما وصل منها لم يحدث أضرارا بالغة، ثم ما جاء
في الرد الإسرائيلي من قصف جوي لعشرات المواقع، فإن من المناسب الإشارة إلى
الحقائق الآتية:
أولا: إسرائيل هي من بادرت إلى
التصعيد حين استخدمت قوة مفرطة تجاوزت الحدود التي اعتاد عليها الجيش الإسرائيلي
في الفترة الأخيرة لمواجهة الحراك الشعبي السلمي لمسيرات العودة.
نحو مئة إصابة وقعت في صفوف المواطنين
الفلسطينيين، جزء كبير منها، بسبب استخدام الجيش الإسرائيلي، للرصاص الحي، كان من
بين الإصابات شهيد واحد.
وقد جاء الرد الإسرائيلي
الموسع والهمجي، انسجاما مع السياسة التي تتبعها حكومة نتنياهو التي تسعى وراء فرض
معادلة "هدوء مقابل هدوء"، دون أن يصل مستوى الرد إلى شن حرب واسعة على
قطاع غزة، لن يكون لها من هدف سوى الانتقام والقتل والتدمير مع بقاء الوضع على
حاله.
ثانيا: لماذا يصر البعض على
مجاراة السياسة الإسرائيلية التي تتعامل مع قطاع غزة، ككيان معاد منفصل لا علاقة
له بالأراضي المحتلة العام 1967؟ صحيح أن ثمة انقساما مريضا وبغيضا يسيطر على الأوضاع
الداخلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن الفصائل المنقسمة وما بينهما،
والمجتمع بأسره، وبكل عناوينه، هو جزء أصيل ولا يتجزأ من الصراع مع الاحتلال.
إسرائيل تخوض حربا حقيقية،
تتجاهلها وسائل الإعلام المغرضة، أو الغبية أو الجاهلة، في الضفة الغربية والقدس.
هي حرب ضروس، وجارية كل الوقت، أشد خطورة، وأكثر أهمية من الحروب أو جولات
الاشتباك التي تقع بين الحين والآخر على جبهة قطاع غزة مع الاحتلال.
إن فصائل ومجتمع قطاع غزة
كجزء من الشعب الفلسطيني، لا يمكنهم أن يقفوا على الرصيف، إزاء الاعتداءات اليومية
التي يشنها المستوطنون بحماية الجيش ضد الفلاحين، وضد الشجر والحجر والبشر. ولا
يمكن أن يتجاهل الفلسطينيون دورهم إزاء مصادرة الأراضي، وتوسيع الاستيطان
والمستوطنات في الضفة، والاقتحامات اليومية المتكررة على المسجد الأقصى وأهل القدس.
الفلسطينيون يخوضون معركة
مفتوحة وشاملة مع الاحتلال الذي يستهدف حقوقهم ووجودهم وأرضهم وممتلكاتهم في
الضفة، وحين يجري الحديث عن الفلسطينيين لا يمكن لأحد أن يستثني قطاع غزة بكل ما
فيه.
إذا فإن كل أشكال النضال
التي تمارسها الفصائل ويمارسها الناس في قطاع غزة، من مسيرات العودة، إلى إطلاق
الصواريخ وما بينهما، هو استحقاق وجزء من دور الفلسطينيين في غزة، في هذه الحرب
التي تشنها إسرائيل، وفق ما تتيحه الظروف.
واضح أن الإعلام الموجّه،
يركض خلف رائحة الدم، ويتجاهل رائحة الحقوق والأرض، ومعادلة السلام، التي أطاحت
وتطيح بها إسرائيل كل يوم لتحقيق أهداف توسعية تندرج في اطار المرحلة الثانية من
المخطط الصهيوني الأصلي.
الإسرائيليون عادوا للتلاعب
فيما بينهم على خلفية الأزمة السياسية التي تتحكم في المشهد العام، ففي حين استمر
ليبرمان في السخرية من طريقة تعامل حكومة نتنياهو مع غزة، ويصفها بالإفلاس فإن
غانتس، يتوعد بحملة جديدة مدمرة قريبة على قطاع غزة.
نتنياهو الذي يواصل العمل
وفق رؤيته تجاه قطاع غزة والقائمة على تأبيد الانقسام، واستغلاله لتنفيذ أهداف
إسرائيلية استراتيجية يعتبر أن ما قامت به إسرائيل كان كافيا للرد على اطلاق
الصواريخ، ويستغرب الدوافع وراء إطلاقها طالما أن الأموال القطرية تصل إلى القطاع
فضلا عن الالتزام ببعض الإجراءات التخفيفية.
الأخطر فيما يصدر عن
الإسرائيليين ما أدلى به الجنرال غيورا ايلاند رئيس مجلس الأمن القومي الأسبق،
الذي قال إن على إسرائيل أن تعترف بحقيقتين: أن غزة دولة من الناحية الفعلية وفيها
حكومة شرعية وان على إسرائيل أن تتخلى عن فكرة أن حماس منظمة إرهابية لا يجوز
التعامل معها بل من خلف ظهرها.
هذه القراءة
"الصحيحة" والجريئة من قبل أحد أهم الجنرالات الإسرائيليين توضح إلى
أبعد حد، وتشرح أبعاد السياسة الرسمية التي يديرها نتنياهو.
في كل الأحوال، فإن الجولة
التي وقعت يوم الجمعة الماضية لن تكون الأخيرة هذا العام، فالأوضاع مرتبطة
بالتطورات المرتقبة في لبنان وفي العراق ومرتبطة أيضا بقرب انتهاء المنحة القطرية
مع نهاية هذا العام فضلا عن ارتباطها بتطورات الأوضاع الفلسطينية الداخلية سواء
بين الضفة وغزة، أو بين أطراف المعادلة في قطاع غزة، ومدى القدرة على ضبط سلوك كل
أطراف المقاومة ضمن اطار وطني متفق عليه.
(الأيام الفلسطينية)