البعض يقول إن حال
الثورة المصرية يستحق أن يُدرَّس في تاريخ الثورات، وأنا أوافق هذا الرأي؛ لا من جهة المدح للشعب المصري، ولا من جهة أنه استطاع خلع مبارك في ثمانية عشر يوما، ولا من جهة القمع الأمني الحالي الذي قد يبدو أنه أحكم قبضته على مصر؛ ولكني أحاول النظر إلى جهة أخرى قد نكتشف فيها ما تُخفي ألسنتنا عن التصريح به من قهر وظلم وُضع فيه هذا الشعب، من نظامه ومن معارضته ونخبته التي تصرح ليلا ونهارا بثوريتها!
في ثورة 19 كانت ثورة شعب كاملة ضد محتلٍّ غاصبٍ لمقدَّرات شعبٍ ولأرضه، وكان ذلك المحتل ظاهرا والعدو واضحاـ ويُجمع الشعب على كرهه وضرورة التخلص منه، وكان التفافهم حول زعيم يحمل نفس همومهم. وبالمناسبة هم من صنعوا هذا الزعيم (سعد زغلول) من قبل أن يكونوا تابعين له. وفي "انقلاب/ثورة" يوليو 52 (سَمِّها ما شِئت)، لم يكن للشعب أيُّ دورٍ فيها سوى أنه كان مستَخدَما من تلك القيادة، وقد أنجحهم ومكَّنهم.
وأخيرا في ثورة يناير، والتي هي من أعظم الثورات المصرية الحقيقية على حاكمٍ مصريٍّ ظالم كان قد استنفد كل رصيده عند الشعب، والأهم عند الجيش الذي كان ظهيره الأول، ومنه خرج.. لم يكن الشعب حينما ثار على مبارك لا يدري بالتضحيات التي يمكن أن تُبذل في سبيل التخلص منه، ولم يكن متراجعا عن هذه التضحيات أو خائفا من وقوعها؛ بل كان وأدهش العالم واستطاع إنجاح ثورته (فيما بدا له) في صورة خلع مبارك.
لكن.. ومع بداية ذلك بدأت اللعبةُ الحقيرة، بل الخيانةُ الكُبرى (في رأيي) لثورة يناير.. خيانةٌ لهذا الشعب الطيب الذي لم تُنصفه نُخبةٌ ضعيفة انتهازية لا خبرة لديها ولا وعيا سياسيا، فلم تقف معه بل كانت سببا رئيسا في تضليله وخداعه؛ إذ انخدعت هي أو خانت، كيما شئت فقل!
نأتي الآن للأسوأ، وهي الحكومة الحالية، وبعد أن أصبح لا لبس عند كل مصري أن يتم نعتها بكل ما يمكن أن يُقال عن حكومة فاشلة فاسدة.. ومع هذا النضج من الشعب والوعي الكامل بكل هذا، لنا أن نقف لنتساءل: لماذا كلما اشتعلت شرارةٌ للثورة الحقيقية ضدها نجد لهذه الشرارة خفوتا وتراجعا؟!
لا أقول إن الثورات تتم في يوم وتنجح، ولست من المتشائمين، بل إنني من الذين يراهنون على هذا الشعب وقدراته؛ لكن أقول إن الثورة إن قامت تستمر ولا تنتهي إلا بانتصار الشعب؛ لأنه لا قِبل لأي نظام، دكتاتوريّا كان أو قمعيا، ومهما بلغت قوته وتوحُّشه، بهزيمة شعب.
دعونا نفكر سويّا بعقل يتجرد قليلا من الكلام المعسول الذي يريح المغرورين ولا فائدة منه.
الشعب وحده هو من يقاوم، وهو من يقوم بالثورة، وهو من يضحي من أجلها، وهو من يتراجع عنها يائسا فتفشل.
هذا الشعب الذي خرج (بعد أن ظن البعض أنه لن يثور مرة أخرى أبدا بعد مرور سنين عجاف وأحداث بل ومذابح) بدعوة من فنان لم يسبق له عمل سياسي أو ثوري، بل وكلامه عن بناء الدولة وإدارتها والمواجهة الثورية قد يراه البعض سطحيّا وبسيطا لحدٍ كبير. ولست بصدد تقييم الحال التي تحتاج لتأمل أعمق في نفسية هذا الشعب؛ الذي طفح به الكيل من التحليلات السياسية المكبَّلة باختلافات وصراعات لم يأته منها خبز ولا ماء.
إن عيني الآن تنظر لهذا الشعب الموتور من نخبته التي فقد الثقة بها، إلى حدِّ تعلق الغريق بالقشة التي قد تنجيه إن وجدها بعيدا عنهم!!!
الخلاصة يا سادة.. هذا الشعب العظيم سيثور (ولا بد) ولن يَجبُن عن المواجهة لأي قمع، ولن يخاف من أي أحد أو شيء، ولن يبخل بالتضحية لوطنه بروحه، كما فعل والتاريخ يشهد.
لكن.. هذا الشعب يتوق لقيادة (أشخاص أو كيانات) مخلصة متوحدة، تستطيع أن توجهه بكل آليات العمل المدني.. أفلا تكونون شجعانا لهذه المهمة لأجل وطنكم، أو حتى تكفيرا عن خطاياكم في حقه لتثبتوا له أنكم جديرون بأن تتبعون مطالبه وحقوقه قبل أن يتبعكم هو؟
عشرات المقالات كتبتُ داعية إلى هذا التوحد، بيدٍ واحدةٍ وقلبٍ واحد وهدفٍ واحد وصرخةٍ واحدة يصدح بها الكل (أنا مصري!)، ليلتف الشعب بكامله حول هذه الدعوة (أنا مصري).
لعل الوقت حان أو اعلموا أنكم (للأسف) ستبقون عند هذا الشعب ساقطين وغير مؤهلين لثقته!!!