مفجعة وخطيرة إلى أبعد حد، الأعمال الإرهابية التي وقعت مساء يوم
الثلاثاء المنصرم، جنوب وجنوب غربي مدينة غزة. ثلاثة شهداء وعدد من الجرحى، سقطوا
جراء عمل إرهابي استهدف حاجزين لشرطة المرور. قد لا يكفي عدد الشهداء والجرحى،
للحديث عن مصيبة كبيرة تنتظر سكان قطاع غزة، وذلك بالقياس لأعداد الشهداء والجرحى
الذين سقطوا خلال مسيرات العودة فقط، غير أن مسألة الخطورة من عدمها تتصل بالكيف
أساساً وليس بالكمّ.
حين
يسقط الشهداء والجرحى في ميدان الصراع مع الاحتلال، فإن هذا جزء من ثمن النضال من
أجل الحرية، وهو هدف يستحق أن يدفع الشعب الفلسطيني أثماناً أكبر بكثير، وهو يفعل
ذلك على الدوام منذ إطلالة المشروع الاستعماري الصهيوني.
غير
أن سقوط الشهداء والجرحى، نتيجة خصومات، أو منازعات وصراعات داخلية، وتعبئة خاطئة،
فإن هؤلاء خسارة كبيرة تسجل على حساب الشعب وقواه السياسية، وليس لحسابه.
بالنسبة
للأجهزة الأمنية المحترفة، والمسؤولة، ثمة ضرورة ومعنى للبحث عن الأسلوب الذي تمت
به العمليات الإرهابية، إن كانت من فعل انتحاري، أو زرع عبوات، أو هجوم مباغت أو
أي شكل آخر، لكن المسألة بالنسبة للمواطن مختلفة.
المواطن
ينظر للحدث الإجرامي، بشمولية تتصل بأسبابه، ودوافعه وتتصل بأهدافه، والقائمين
عليه، وبمدى تكراره، وبهذا المعنى، فإن تلك العمليات تركت حالة من الذعر،
والاضطراب لدى المواطنين، نظراً لأنها لا تشير إلى عمليات فردية ثأرية، بقدر ما أنها
تشير إلى وجود جماعة معبّأة بالتطرف، وتكفير الآخر وإقصائه. الجماعات المتطرفة، في
طول المنطقة العربية وعرضها، وفي فلسطين، أيضاً، تستند إلى منطق أعوج في معالجة
التناقضات السياسية والمجتمعية، إذ تتعامل مع الأولويات بطريقة، تؤدي فعلياً إلى
تجاهل الاحتلال والاستعمار، والظلم الناجم عنه، لصالح التناقضات الثانوية داخل
المجتمعات. لا تفعل ذلك، إلاّ قوى وجماعات مرتبطة بالاستعمار، أو أنها تجنّد نفسها
وإمكانياتها، لتحقيق مصالحه وأهدافه. لا يمكن أن يستقيم منطق التعبئة الدينية
المتطرفة، مع منطق الوطنية، بل إن المنطقين متناقضان تماماً إلى حد التصادم.
إن
وجود بيئة متطرفة في رؤيتها للدين والسلوك الاجتماعي والسياسي يشكل الحاضنة
الدفيئة لظهور التطرف السلوكي، والانحراف عن المصالح الوطنية العليا. لا يبتعد هذا
المنطق عن منطق التعبئة الكفاحية، التي تربط بين الإخلاص للأهداف الوطنية العامة،
وأشكال خوض الصراع، ذلك أن التعبئة التي تقوم على تقديس العنف في معالجة الصراع
والقضايا الوطنية، ستصطدم آجلاً أم عاجلاً بالاستحقاقات السياسية، واستحقاقات
الحكم والمسؤولية الوطنية. التجربة مهمة، لتصويب استراتيجيات فصائل العمل الوطني
والإسلامي، وهي مهمة الآن لاستخراج الدروس، وتصحيح المسار، بعد كل الذي جرى ويجري
في ساحة العمل الوطني منذ اثني عشر عاماً وأكثر.
لقد
سبق للأجهزة الأمنية التابعة لـ «حماس» في قطاع غزة، أن قامت، بملاحقة ومعالجة
ظواهر متطرفة، وهي أكثر جهة قادرة على حصر هذه الظاهرة وتطويقها، خاصة وأنها تمتلك
إمكانيات حرفية كبيرة ومهمة في هذا المجال.
الخطر
على المجتمع لا يأتي من النشطاء الذين يتحركون وينتقدون عَبر مواقع التواصل
الاجتماعي، بدوافع وطنية، ودافع الحرص على المصالحة وتحقيق الوحدة. إن هؤلاء
يقومون بحراكاتهم بصورة علنية مكشوفة، وينتقدون واقع الحال، أيضاً، بشفافية وصراحة
قد تكون جارحة، لكن الخطر يأتي من التعبئة الصامتة، والتحضير للأعمال الإجرامية في
الخفاء، والآن بغض النظر عن الجماعات التي ينتمي إليها الإرهابيون الذين أرادوا
نشر الفوضى والخوف، وإشغال الساحة الداخلية، فإن مثل هذه الأعمال، تنتمي إلى الفكر
والسلوك «الداعشي».
لا
يمكن أن تصدر مثل هذه الأعمال عن الفصائل والقوى الوطنية التقليدية، فهذه تشتغل
وفق قواعد معلنة ومعروفة، مهما أخطأت التفكير أو السلوك، فإنها لا يمكن أن تنحرف
عن بوصلة العمل الوطني الحقيقي. ولكن لماذا في هذا الوقت؟ من الواضح أن إسرائيل
التي تستثمر العدوان في المزايدات الانتخابية، قد فعلت كل إمكانياتها وفي محيط
واسع، لإرباك القوى والأطراف التي تنتسب وتنسب نفسها إلى محور المقاومة. ليس موضوع
محور المقاومة هو موضوعنا، ولكن إسرائيل وفق حساباتها تضرب في العراق، وسورية،
ولبنان، وهي تعتقد أن ذلك لن يجرّ عليها حروباً لا تريدها في هذه الفترة.
قطاع غزة داخل الدائرة، خاصة بعد أن أعلنت بعض فصائل المقاومة، أنها
ستكون على الخط في حال تصاعدت النيران بين إسرائيل، ومحور المقاومة. هنا تقوم
إسرائيل بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة بتفعيل أدواتها لإرباك الساحة الداخلية في
قطاع غزة، لإشغال المقاومة واستنزاف قواها في مواجهات بعيدة عن المواجهة مع
إسرائيل. لذلك، بات من الضروري التخلي عن منطق الحوار، والمراهنة على عقلنة
المتطرفين، والمبادرة بفعل وطني جامع، سيلقى دعماً من المجتمع، لمحاصرة هذه
الظاهرة، قبل أن تتوسع في أعمالها واستهدافاتها الإرهابية، لتهشيم النسيج الوطني
والاجتماعي الذي يكفيه ما فيه وما يعانيه من أزمات. إن توسع هذه الظاهرة، من شأنه
أن يسرّع بهجرة الفلسطينيين عن أرضهم تساوقاً مع المخططات والأهداف الإسرائيلية
التي باتت مكشوفة ومعروفة.
عن صحيفة الأيام الفلسطينية