“إذا انطلقنا من الأوضاع الداخلية في البلاد، فعلينا أن نكون في
المعارضة. ولكن السياسة الخارجية التقدمية التي تنتهجها سوريا، تلزمنا بتأييدها”.
بمثل هذه العبارات، أو ما معناها، كان الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش
يسوّغ وقوفه إلى جانب النظام السوري، وذلك منذ سيطرة حافظ الأسد على مقاليد الحكم
في بداية سبعينات القرن الماضي عبر انقلاب عسكري، سوّقه تحت اسم الحركة التصحيحية،
ليسدّ الطريق على تهديد الخصوم المحتملين.
تمكّن
حافظ الأسد في ذلك الحين، وفي أجواء الحرب الباردة، من بناء العلاقات مع الاتحاد
السوفييتي، وشكّل في الداخل الجبهة الوطنية التقدمية بقيادته وأوامره، ولكن تحت
يافطة حزب البعث.
أما
الحزب الشيوعي البكداشي، فقد تحوّل بصورة غير مباشرة إلى جزء من النظام نفسه عبر
الجبهة المعنية، وكانت حجته في ذلك أنه يساند سياسة النظام التقدمية التي تقوم على
التحالف مع الاتحاد السوفييتي، ومساندة حركات التحرر والأحزاب الشيوعية والعمالية
في العالم. هذا في حين أن الجميع كان على علم بأن ألف باء السياسة الوطنية تقوم
على تأمين حاجات الناس، وتأمين فرص العلم والعمل والرعاية الصحية لهم، وتحسين
مستوى دور الأطفال ورعاية المسنين والنظام التقاعدي، وغير ذلك من الأمور التي تمس
حياة الناس في الصميم.
ونحن
اليوم إذا أمعنا النظر في المجتمعات التي تحترم شعوبها، نلاحظ أن ميدان التنافس
بين أحزابها هو السياسة الداخلية. أما السياسات الخارجية فنادرا ما تؤثر في خيارات
الناخبين، أو لا أثر لها على الإطلاق. وإذا أثّرت فإنما ذلك بفعل النتائج التي
تتركها سلبا أو إيجابا على معيشة المواطنين، ونوعية الخدمات التي تُقدم لهم،
وانعكاسات كل ذلك على الاقتصاد الوطني.
ومع
بروز مؤشرات واضحة، تؤكد التوجهات الطائفية لنظام حافظ الأسد على المستويين
الداخلي والإقليمي، كان الحزب المعني يصر على نفي ذلك، ويقدّم تحليلات مدرسية مملة
حول التحالف الحاصل بين البرجوازيتين الطفيلية والبيروقراطية، ويؤكد أن ما يحصل في
سوريا هو صراع طبقي. هذا في حين أن الأسد، رأس النظام الذي كان يتحكّم بكل شاردة
وواردة في الدولة والمجتمع، وحتى على مستوى الأفراد، عبر الأجهزة الاستخباراتية
الكثيرة، المتداخلة الوظائف، ورغم أنه كان المهندس الفعلي لنظام الاستبداد والفساد
الذي بدأ بالتشكل في سوريا منذ أوائل سبعينات القرن الماضي، كان يبقى خارج دائرة
المساءلة والمحاسبة، وذلك مقابل الحصول على فتات لا يُذكر من المنافع السلطوية،
والظفر برضى “الرفاق السوفييت” الذين كانت ورقة اعترافهم وتأييدهم تُستخدم أداة
للاستقواء في مواجهة “الرفاق المعارضين” ضمن الحزب.
وهكذا
تمكّن نظام الأسد من تحييد الحزب الشيوعي السوري، إلى جانب الأحزاب الناصرية
بأسمائها المختلفة، وكانت المواجهة الكبرى مع جماعة الإخوان المسلمين في بداية
الثمانينات، وذلك بعد أن تمكّن النظام من جر الجماعة المعنية إلى المنازلة
الطائفية التي كان قد أعد لها مسبقا، ليقدّم نفسه بوصفه النظام العلماني، التقدمي،
الحريص على مواجهة القوى الظلامية المتطرفة.
وتتويجا
لجهوده الرامية إلى شيطنة الجماعة، أصدر حافظ الأسد القانون 49 لعام 1980، الذي نص
بالحرف: “يعتبر مجرما ويعاقب بالإعدام كل منتسب لتنظيم جماعة الإخوان المسلمين”،
حتى ولو لم يكن قد شارك في الأعمال العسكرية. وسكت الحزب البكداشي عن القانون
المذكور الذي أقرّه مجلس الشعب؛ والسكوت كما نعلم علامة رضا، خاصة في الحسابات
السياسية.
وهكذا
تمكّن حافظ الأسد من تأجيل الانفجار السوري لمدة عقود، بعد أن أفلح في تدجين
“العلمانيين” وشيطنة الإسلاميين.
وبدا
الأسد يعد العدة لعملية التوريث، ولكن اللافت هنا أن الحزب البكداشي سبقه في هذا
الميدان، فكانت زوجة الأمين العام هي الخلف، ثم جاء الابن.. مَن كان يقتدي بِمن:
النظام بالحزب أم الحزب بالنظام؟
وما
نتج عن ذلك وغيره الكثير، هو أن الحزب الشيوعي المعني هنا فقد رصيده الكبير بين
المثقفين والجمهور الواسع من العلمانيين وحتى الليبراليين والديمقراطيين
والمتنورين، وتحول إلى ناد مغلق، يتنافس أعضاؤه ويتصارعون على المكاسب التي كان
يغدقها النظام على الحزب، مقابل تحوله إلى مجرد أداة دعائية رخيصة في ماكينة
النظام الديماغوجية.
وقد
تكرّر المشهد ذاته تقريبا في عهد الأسد الابن الذي بذل قصارى جهده، بمشورة رعاته
الإيرانيين، من أجل سحب الثورة السورية إلى ساحته المفضلة، وتمكّن من فرض العسكرة
عليها، واستطاع عبر شبكة علاقاته الواسعة مع الجماعات الإرهابية التي كانت تتخذ من
التشدد الإسلاموي غطاء لها، من التغلغل إلى داخل الفصائل العسكرية التي فرضت نفسها
على السوريين، وحوّلت ثورتهم المدنية السلمية التي كانت من أجل الحرية والكرامة
والعدالة، إلى مجرد صراع مسلح بين جماعات غريبة طارئة مقحمة، تعلن الجهاد من أجل
الخلافة؛ ونظام لم يترك جريمة وإلا وارتكبها، وحصل على كل الدعم من بوتين، ابن
النظام الشيوعي السابق، الذي كان الحزب البكداشي يلزم السوريين بتحمّل أزمات الوضع
الداخلي من أجل مساندته.
وإمعانا
منه في إبعاد الثورة عن أهدافها، لجا النظام بموجب استراتيجيته إلى إغراق الثورة
بالإسلاميين المتشددين، وذلك عبر الإقدام على اطلاق سراحهم من سجونه، وهو على تمام
الإدراك بأنهم سيلتقون مع أولئك المتشددين الذين كان النظام قد صنعهم، وأعدهم.
وهكذا دخلت البلاد في دوامة صراع دموي، وأصبح الرأي العام الإقليمي والعالمي أمام
بديلين سيئين: إمام الفوضى والإرهاب، أو القبول باستمرارية بشار الأسد رغم كل ما
ارتكبه نظامه من جرائم.
ومن
الواضح جدا أن اختزال الوضع السوري ضمن هذه المعادلة التي تضافرت جهود مختلف
الأطراف لتشكيلها وإخراجها على هذه الصورة كان يتناسب مع حسابات القوى الدولية والإقليمية،
وهي القوى التي لم تكن تريد التغيير في سوريا خشية انعكاساته عليها. وكأن التاريخ
يعيد نفسه من جديد. فقد تنطح العلمانيون من بقايا العقلية البكداشية وحزبه، أو من
كان يتمثّل في ذاته منطقها المعكوس، وإصرارها على تشويه الوقائع، لتأتي منسجمة مع
المواقف المعدة سلفا بناء على المصالح والالتزامات الانتهازية لا الحقائق والمصالح
الوطنية؛ فقد تنطح هؤلاء ليعلنوا بأن المعركة هي مع الظلامية الإسلاموية، وأن
النظام العلماني هو الحامي للأقليات والوحدة الوطنية. أما السؤال عن طبيعة العلاقة
بين هذا النظام ونظام ولي الفقيه، وحزب الله، والفصائل العراقية أو الأفغانية
المذهبية التوجه التي أدخلها النظام الإيراني إلى سوريا لتقتل السوريين بالتنسيق
مع نظام الأسد، فكل ذلك لا يتوقف عنده أبدا أدعياء العلمانية هؤلاء، تماما كما كان
يفعل الحزب البكداشي في تعامله مع شكاوى السوريين من تجاوزات استبداد نظام الأسد
الأب وفساده لكل الحدود.
الأمور
باتت واضحة ومكشوفة إلى درجة أن الحديث عنها قد أصبح من المكرر الممل.
وكل
ذلك أدى إلى انعدام ثقة السوريين بالشعارات والأقوال الثوروية الزائفة المزيّفة.
فقد أدرك السوريون بتجربتهم الأليمة أنها كلها تُسوّق للاستهلاك المحلي. تُستخدم
لإثارة المشاعر وتجييش الناس لصالح تأبيد الاستبداد الفاسد المفسد.
إن
وعي ناسنا بما جرى، ويجري، هو مقدمة لتحوّل نوعي سيكون في المستقبل بجهود الشباب
السوري، الذين حصّلوا خلال السنوات الثماني المنصرمة، ورغم قساوة الظروف التي
عاشوها، خبرة غير عادية في ميدان معرفة مجتمعهم، ومواقع وتطلعات القوى الفاعلة
فيه، وطبيعة مشكلاته واحتياجاته، كما تيقّنوا من مدى تهافت التسويغات والشعارات
التي كانت، وما زالت، تسوّق من أجل استمرارية نظام يمثّل مصدر كل الشرور والمشكلات
التي عانى منها كل السوريين، ومن دون أي استثناء.
عن صحيفة القدس العربي