في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1977 انعقد المؤتمر الثامن لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة بحضور 54 دولة إسلامية، وأصدر توصية ختامية بأن يقوم الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية بوضع "دستور" ليكون تحت طلب أية دولة تريد أن يكون الإسلام (شريعة ومنهاجا) حاضرا في واقعها وبالفعل. لم يتوان أحد أهم شيوخ الجامع الأزهر في العصر الحديث، وهو الدكتور عبد الحليم محمود (1973-1978م) وأصدر في 5 كانون الثاني/ يناير 1978م القرار رقم (11) بتشكيل لجنة من أعضاء المجمع لوضع الدستور، وصدر مشروع لدستور متكامل يتكون من تسعة أبواب تحتوي على 93 مادة مفصلة.. الباب الأول عن الأمة الإسلامية (4 مواد)، الباب الثاني عن أسس المجتمع الإسلامي (13 مادة)، الباب الثالث عن الاقتصاد الإسلامي 10 مواد، الباب الرابع عن الحقوق والحريات الفردية (16 مادة)، الباب الخامس عن الحاكم (17 مادة)، الباب السادس عن القضاء (23 مادة)، الباب السابع عن الشورى والرقابة وسن القوانين (مادتان)، الباب الثامن عن الحكومة (مادتان)، الباب التاسع أحكام عامة انتقالية (7 مواد).
كان على رأس هذه اللجنة العالم الكبير الدكتور الحسيني هاشم رحمه الله، والذي كان أمين المجمع وقتها ووقع الاختيار على ستة عشر اسما من الأسماء الكبيرة، كان أكثرهم من الهيئات القضائية، ولن تأخذك الدهشة كثيرا حين تعلم أن الوزير عبد المنعم عمارة، وزير الشباب حينئذ، كان ضمن اللجنة المشكلة!
* * *
هزيمة 1967م كانت شديدة الوطأة على المجتمع المصري الذي كان يختزن في صدره غضبا عارما وسخطا لا نهاية له بما جعله يعيد النظر والمراجعة في الخديعة الكبرى التي عاشها طوال عقدين من الزمن
وما كان الأزهر الشريف ورجالاته الكبار إلا أن تكون لهم وقفتهم التي تناسب تلك المرحلة التاريخية ومستجداتها العديد، فكان هذا الدستور لواقع عملي وليس مجرد تنظير في فضاء الاحتمالات. ولكن وللأسف تم إدراج هذا الدستور العظيم في خانة النسيان التاريخي. وقد رأينا الأستاذ الراحل صلاح عيسى قد بذل جهدا ليخرج دستور 1954م من صندوق القمامة (كما سماه في كتابه الشهير)، إلا أن أحدا لم يهتم بنفض "غبار النسيان" عن دستور الأزهر الإسلامي الذي عالج فيه موضوعات كبرى، سواء من ناحية منهج النظر الفقهي أو الفكري أو التاريخي.
ما كان الأزهر الشريف ورجالاته الكبار إلا أن تكون لهم وقفتهم التي تناسب تلك المرحلة التاريخية ومستجداتها العديد، فكان هذا الدستور لواقع عملي وليس مجرد تنظير في فضاء الاحتمالات
سنقرأ في باب أسس المجتمع أن الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق، وتكفل الدولة دعم الأسرة وحماية الأمومة ورعاية الطفولة وتهيئة الوسائل المحققة لذلك (سنقرأ للدكتور المسيري رحمه الله بعد ذلك - في الحداثة وما بعد الحداثة - فكرا صافيا زلالا عن فكرة الأسرة المتماسكة، وأن صونها محض أمن قومي).
سنقرأ تسع مواد في باب الاقتصاد الإسلامي تضع إطارا محكما وواسعا يحوي داخله كل أشكال التطور الزمني لحركة المال بإشكالياته العديدة بين الدولة والمجتمع والفرد، والحق أن المساحات التشريعية التي تعمد الوحي إخلاءها لاجتهادات الأجيال تتجاوز مد البصر.
سيراودك الضحك كثيرا حين تسمع من يقول إنه ليس هناك ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي، وإلا فعليك إذن أن تأتينا بالكيمياء الإسلامية والرياضيات الإسلامية والسكة الحديد الإسلامية.. الخ!! وهكذا دائما تتأكد لنا كل يوم حقيقة أن نصف العلم أخطر من الجهل (تماثيل تدور بلا عقول وألفاظ تدور بلا معانٍ)، ولهذا حديث يطول.
سنقرأ أيضا في باب الحريات والحقوق الفردية عن حرية الاعتقاد الديني والفكري وحرية العمل، وإبداء الرأي بالقول والكتابة، وحقوق التنقل والتملك، وحق المرأة في العمل والحركة، وحق تكوين الجمعيات وإصدار الصحف. وعن حظر تسليم اللاجئين السياسيين، سنقرأ عن رئيس الدولة وتعيينه ومراقبته ومحاسبته وعزله، وعن خضوعه للقضاء والحضور أمامه بوكيل عنه. سنقرأ أيضا عن استقلال القضاء استقلالا تاما، وستلتفت للمادة 75 التي تقول: "لا يحكم بالإعدام في جناية إلا إذا امتنع الصلح أو عفو ولي الدم"! سنقرأ أيضا في المادة 80 أنه لا يجوز إذلال المحبوس أو إرهاقه أو الإساءة إلى كرامته.
على أن لا ننسى في هذا المقام الاجتهادات الراقية لفضيلة الشيخ شلتوت شيخ الأزهر (1958-1963م) في رؤيته الجامعة ومبادئه التسع التي ركز فيها على نظام الحكم في الإسلام (السيادة/ الحكم/ الحاكم/ الشورى/ التضامن الاجتماعي/ الرقابة الشعبية/ عزل الحاكم/ المجلس النيابي/ هدف الحكم)، وختمها بذكر أن الإسلام لا يخص أحدا بحق الاستثناء في تفسير النصوص، ولا يحق لأحد إلزام الناس برأيه، بل يمنح هذا الحق لكل مسلم حائز لأهلية البحث، وأن الحاكم ليس معصوما.
وأخيرا، لعل شاعرنا الكبيرمحمود سامي البارودي كان يقول حقا حين قال: وقد تورق الأغصان بعد ذبولها ** ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن.
محاولة لتقدير تكاليف استفتاء الدستور بمصر
مصر: العمل الإسلامي السياسي بعد 8 سنوات من ثورة يناير إلى أين؟