لا أعلم لماذا راودتني فكرة العدالة والإنصاف وأنا أتابع الاحتفالات الباذخة والمبهرة بحلول عيد رأس السنة الميلادية من شاشة التلفاز في بيتي.
كانت العواصم والحواضر
الكبرى في العالم، وكأنها في منافسة أو مباراة لإبهار الناس بالطاقة الهائلة التي
تملكها للصرف أو البذخ على نشاطات لا تسمن ولا تغني من جوع.
ومالكو المال والسلطة
في الغالب ينحون صوب البهرجة في أشكالها المختلفة وبشكل مفرط أحيانا. وهذا ما جعل
المناسبات والأعياد التي كان يجب أن تذكرنا بالعدل والإنصاف تتحول إلى مجرد
البهرجة.
هل نفتقر نحن البشر إلى
معايير نظرية وعملية لتحقيق العدل والإنصاف في حياتنا وعلاقاتنا ضمن المجتمعات
التي نعيش فيها؟
الجواب بالطبع هو كلا.
تأخذ العدالة ومعها الإنصاف حيزا كبيرا في طروحات الفلاسفة والمفكرين منذ العهود
التي تمدن فيها الإنسان وصار يسن التشريعات لتنظيم حياته.
وهناك قواعد ومعايير
كثيرة للعدالة، أغلبها يميل صوب رغبات وطموحات منظريها، ويعكس توجهاتهم وثقافتهم
وبيئتهم. وهذا ما جعل كثيرا من المفكرين ينأون عن القول إن هناك نموذجا واحدا
يستجيب لمتطلبات العدالة التي ينشدها الإنسان.
ولهذا، لم يشعر البيض في
شمال أمريكا بأي وخز للضمير وهم يشترون الناس الذين كان التجار يصطادونهم في
الغابات الأفريقية كما يصطادون الحيوانات لغرض البيع، حالهم حال أي بضاعة أخرى.
وكذلك لم يشعر البيض في
جنوب أفريقيا بأي وخز للضمير وهم يستعبدون السود بملايينهم، فيما عرف في حينه
بالأبارثيت، أو الفصل العنصري.
وأغلب الناس في إسرائيل
لا يشعرون بوخز الضمير رغم ما وقع ويقع للفلسطينيين من احتلال وانتهاك كرامة وحقوق
إنسان، ونحن في نهاية العقد الثاني من القرن الـ 21.
ومستهلكو المواد
الأولية في دول العالم الصناعي المتمدن "انظر المتمدن"، يشترون هذه
المواد بغض النظر عن طريقة استخراجها وريعها وإلى أين تذهب وارداتها. وهذه الدول
لا تكترث إن كان المنتج والمسوق والمستفيد من هذه المواد وريعها دكتاتورا يضعها في
خزائنه وخزائن عائلته وأصحابه، أو يعيد تدويرها في خزائنهم ويحرم شعبه منها.
الفلاسفة والمفكرون
يختلفون عنا بميزة مهمة قلما تخطر على بالنا. إنهم يلجأون إلى التخيل. نحن نقوم
بذلك أيضا، لكن المفكر له خيال خصب. ومن ثم يلحق بأي فكرة خيالية
"نظرية" تراوده عدة تطبيقات وسيناريوهات لتقريب الخيال إلى الواقع.
الأمثلة التي ذكرتها
أعلاه لتبيان غياب العدالة والإنصاف صحيحة من وجهة نظر الضحايا، بيد أنها مثال حي
للعدالة والإنصاف لدى المستفيدين منها؛ لا بل قد يرونها حقا مكتسبا.
هل في إمكان مفكر أو
فيلسوف، تفسير الأمثلة هذه لنا ولماذا وكيف تقع أحداث مثلها لدى الإنسان، رغم
امتلاكه عقلا يستطيع بواسطته الفرز بين العدل والإنصاف أو عدمه؟
حسب ظني، هناك مفكر كبير
في العصر الحديث حاول الإجابة على أسئلة كهذه وتسليط الضوء عليها، أي تفسيرها لنا
كظاهرة بشرية؛ في الحقيقة إنه يذهب أبعد من ذلك من خلال تقديمه حلولا واقتراحات
وبدائل لرفع الغبن وتحقيق العدل والإنصاف.
إنه الفيلسوف الأمريكي
جون رولز الذي يعد واحدا من أشهر المفكرين في العصر الحديث من خلال تقديمه إطارا
نظريا للعدالة.
وتذكرت رولز وما كنت قد
قرأت له وأنا أبحث عن العدالة والإنصاف في رأس السنة. تذكرته وعيناي متسمرتان أمام
شاشة التلفاز وفي رأسي تدور أسئلة كثيرة حول لماذا وكيف تخطف مناسبة رأس السنة بعض
الناس والمجتمعات وتقحمهم في بهرجة واحتفالات باذخة ونشاطات، شخصيا لا أستطيع
استساغتها وأرى أنها تنتهك مبدأ إحقاق العدالة والإنصاف.
يقول رولز، "إن
العدالة تتحقق إذا وضعنا أنفسنا في موقع الشخص الذي لا يعرف أي شيء عن الحادث أو
الوضع أو الواقع قبل إصدار حكم عليه"؛ بمعنى آخر، أن نضع برقعا أمام أعيننا
وعقلنا إلى درجة ننسى ما نحن عليه ونفقد كل المعرفة عن الأشخاص أو الأحداث أو
الوقائع التي سنصدر حكما عليها.
وأظن أن هناك سوء فهم
لرولز من قبل قرائه فيما يخص "عدم المعرفة"؛ فهو لا يعني أننا في ظلام
بل على معرفة كبيرة بالواقع، لكننا نضع البرقع كي نبدو أننا لسنا منه.
وأنا حاولت في رأس
السنة أن أضع البرقع أمام ناظري، أي أن أضع نفسي خارج النظام متخيلا أن لا موقع
أو موطئ قدم لي فيه، رغم معرفتي التامة بما هو عليه. وبعدها حاولت الحكم على
الاحتفالات الباذخة برأس السنة وكذلك الحكم على الأمثلة التي سقتها أعلاه.
أظن أن القارئ الكريم
ربما توصل إلى مفهوم العدالة والإنصاف الذي في ذهني، ولكن لا أعرف مدى قربه أو
بعده عما يدور في خلدي.
عن صحيفة الاقتصادية السعودية